دولة المواطنة : اقتسام الثروة العامة للبلاد

تقول الخبرة الإنسانية إنه بقدر ما يتقدم المجتمع فى بلورة وحدات اقتصادية واجتماعية أكثر تعقيدا، كلما تطور المجتمع فى تناوله للقضايا التى تشغله. فكلما كانت الوحدات الاقتصادية والاجتماعية متخلفة، من حيث طبيعة ملكيتها وإدارتها ونوعية ما تتعامل فيه، كان يوصف هذا النمط من المجتمعات بأنه ما قبل حديث، ومن ثم تبقى أولوياته واهتماماته ونوعية قضاياه بعيدة كل البعد عن الأولويات والقضايا الحقيقية.

(1)

وقبل أن يقول قائل إن هذه هى التجربة الأوروبية، ونحن غير ملزمين بها. أقول لذا أجدنى قد صدرت المقال بعبارة «الخبرة الإنسانية». فالقارئ لتجارب متنوعة لمجتمعات مختلفة السياقات الثقافية ومتنوعة التطور مثل: الهند والبرازيل وتشيلى وماليزيا وجنوب أفريقيا وتركيا، سوف يجد كيف أن التطور الاقتصادى والاجتماعى القائم على اقتصاد إنتاجى مُركب قد نقل هذه المجتمعات إلى مصاف المجتمعات المتقدمة. كما يمكن القول كيف أن هذه المجتمعات قد استطاعت أن تؤسس لدولة المواطنة بحق.

(2)

فبالإضافة إلى العدالة الشاملة – ليس القانونية فقط وإنما السياسية / المدنية، والاقتصادية / الاجتماعية – والمساواة وتكافؤ الفرص بين الجميع دون تمييز لأى سبب من الأسباب، وهما من الركائز الأساسية لدولة المواطنة – كما أشرنا الأسبوعين الماضيين – نجد هذه المجتمعات تسعى فى إطار استهداف تحقيق مبدأ المواطنة عمليا إلى ضمان تأمين:

اقتسام الموارد العامة للبلاد بين كل المواطنين.

(3)

كان العدل الاجتماعى يأتى على قائمة الأجندة الوطنية للمجتمعات سالفة الذكر. ولتحقيق العدل لابد من البدء بمواجهة الفقر وتوفير شبكة أمان اجتماعى وتأمين الرعاية الصحية والتعليم وتوفير الخدمات الأساسية وإتاحة فرص عادلة بين الجميع. وكان المدخل لذلك هو التوزيع العادل للثروة الوطنية بين جميع المواطنين، فى إطار اقتصاد إنتاجى مركب، انطلاقا من أن الشعب شريك فى عوائد التصدير، خاصة الثروات الطبيعية الرئيسية.

(4)

بالطبع، لا نقصد بالتوزيع العادل للثروة الطبيعية أن يتم بشكل مباشر، وإنما فى إطار سياسات اجتماعية متعددة المستويات وعالية الجودة، بحيث يشعر بها المواطن فى حياته اليومية. وتترجم عمليا للمواطن البسيط بأنه صار شريكا بالفعل فى الثروة العامة للوطن الذى يعيش فيه.. شريكاً فى ثروة تضمن له أن تتحول أحياء الصفيح ـ فى البرازيل وتشيلى مثلا ـ إلى مواقع سكانية متطورة ونظيفة، بها المدرسة المتقدمة والنادى الرياضى المجهز جيدا والمركز الصحى ذات المستوى المقبول. كما يمكن للهند أن تتيح لمواطنيها فى كل البقاع مواقع للتواصل مع الكمبيوتر والإنترنت بأسعار رمزية، أو تدعم مشروعات تنموية للفقراء قاعديا فى ماليزيا بشكل مدمج فى هيكل الاقتصاد.

(5)

لقد قبلنا على مدى عقود بالوصفة النيوليبرالية، التى تقوم على الخصخصة واقتصاد السوق فى مجالات تتسم بالريعية واقتصاد غير حديث. فرّطنا فى قاعدة اقتصادية ضخمة بدلا من تطويرها. وقلنا إن المستقبل فى السياحة، وكانت مناهج التعليم تسوق لذلك. وبدلا من أن نتبنى الصناعة والزراعة المميكنة والتكنولوجيا وتوطينها، بالإضافة إلى السياحة، وجدنا أنفسنا نعتمد على اقتصاد ريعى وبالكثير على صناعات تخلصت منها المجتمعات المتقدمة، لأنها تسبب التلوث مثل السيراميك. وعلى اقتصاد «تسقيع الأراضى» والتوكيلات… إلخ. وكلها نشاطات تدفع إلى أن تحتكر القلة الثروة الخاصة والعامة، فلا يصبح هناك أى مجال للحديث عن الشراكة فى الثروة العامة للبلاد، وأن يحتكر أفراد منح الأراضى والثروة العقارية، وأن يحتكر أفراد الثروة النفطية بالشكل الذى نكتشفه كل يوم.

(6)

إن أى حديث عن المستقبل لن يستقيم إلا إذا طرقنا هذه النوعية من الموضوعات. أدرك أن طبيعة التطور لم تزل تحصر خلافاتنا فى الإطار الثقافى دون غيره.. عن دينية الدولة أم مدنيتها. وربما هناك من يريد لنا أن ننشغل بهذه النوعية من الموضوعات فلا نتحدث عما هو حقيقى، لأنه يخل بكثير من المصالح القائمة، لكن النهضة تبدأ بالتحرر من الوضع الاجتماعى والاقتصادى المهين، ومن الحديث عن العدالة الشاملة، ومن كيفية تحقيق التكافؤ والمساواة، وكيف يمكن أن يكون الوطن ملكا للجميع ينعمون بثرواته.. بذلك تتحقق دولة المواطنة.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern