فى الأسبوع الماضى تحدثنا عن أن دولة المواطنة تقوم على العدالة الشاملة. وبإلاضافة إلى ما سبق نقول إن دولة المواطنة تقوم أيضا على «المساواة وتكافؤ الفرص». فالمواطنة، بحسب تعريفنا الذى اجتهدنا فى تقديمه منذ فترة فى كتاباتنا، تتجاوز التعريفات النمطية التى تحصرها فى الانتماء وفى الحقوق والواجبات فى صورتها الميكانيكية، كذلك يتجاوز حصرها فى العلاقات الدينية. لذا كنا دائما نربط المواطنة بالمشاركة والمساواة بأبعادها وبالعدالة بمستوياتها واقتسام الموارد العامة للبلاد فى إطار اقتصاد إنتاجى.. أما عن المساواة فنقول:
(1)
ترتبط المساواة ارتباطا وثيقا وجدليا بسياقها المجتمعى، وبنضال الناس، أى ممارسة المواطنة على تحقيق المساواة أو تقليل التفاوتات بأنواعها. وفى الوقت نفسه الانتباه إلى أن المساواة / اللامساواة هى نتاج للواقع وتفاعلاته وحركية الناس / المواطنين، من حيث المدى والقدرة والتوجه. كذلك فإن أى تناول صحيح للمساواة وتكافؤ الفرص لابد أن يأخذ فى الاعتبار من جهة السياق بتفاصيله، أى نمط الإنتاج السائد، التوجه الاقتصادى، الواقع الاجتماعى والثقافى والسياسى بتفاصيله… إلخ، ومن جهة أخرى أهمية أن تكون هناك مساحة لحضور المواطنين ومشاركتهم فى تحديد السياسات التى يتم الاتفاق عليها لتحقيق المساواة وتأمين تكافؤ الفرص.
(2)
إن المتابعة الدقيقة لما يحدث فى العالم تقول إن هناك اتفاقاً على أن سياسات الليبرالية الجديدة التى قامت على الخصخصة واقتصاد السوق وتقييد دور الدولة قد أدت إلى إعادة توزيع الثروة والدخل لصالح قلة، أى أدت إلى اللامساواة. ولم تفلح محاولات المؤسسات الدولية فى أن تسد الفجوة التى أخذت فى الاتساع بين دول الشمال والجنوب، بل امتدت إلى دول الشمال نفسها.
وهو ما دفع المعهد البحثى للأمم المتحدة للتنمية الاجتماعية فى تقريره التاريخى المعنون: حالات من الفوضى: الآثار الاجتماعية للعولمة، States of Disarray The Social effects of Globalization، يشير مبكرا إلى أن هذه السياسات سوف تؤدى إلى كارثة فذكر: «أن الإجراءات الكاسحة لجعل السوق ليبرالية الملمح، والاقتطاعات الكبيرة فى الإنفاق الحكومى على التأمينات الاجتماعية مثلا، قد تبدو مبررة لتحقيق الفاعلية الاقتصادية على المدى القصير. بيد أنها إذا ما أدت إلى تفاقم البطالة وتعمق الفقر، فإنها سوف تنقلب إلى إجراءات مكلفة للغاية، لا فى مجال خلق الأسى والعسر للفرد فحسب، بل أيضا من جراء أثرها غير المباشر على قضايا الصحة، والمخدرات، والجريمة، وتشغيل الأطفال والدعارة، ولن تستطيع السلطات المسؤولة إغفال الصلة بين البؤس وعدم الأمان من جهة، والصراعات الاجتماعية وتزايد الحركات المتطرفة من جهة أخرى».
(3)
لقد تصور أصحاب هذه السياسات أن برامج التصحيح التى وضعها صندوق النقد والبنك الدوليان سوف تخلق بلدانا مثالية. بيد أن هذا لم يحدث. وما إن «ووجه الناس بالفقر، والبطالة، وتدنى التوقعات، حتى عمد الكثير منهم إلى نشدان السلوان فى البدائل التقليدية من قارئى الحظ إلى رعاة الطائفة الدينية. كذلك حصل استقطاب فى مجتمعات بلدان العالم الثالث المدينة، وإلى درجة كبيرة، فقلة منهم أفادوا من فرص السوق الجديدة، أما جمهور الفقراء فقد ازدادوا فقرا. وعدم المساواة هذا جعل من العسير فعلا خلق مجتمع حسن التكامل يكون أرضية لتنمية إنسانية فى المستقبل..».
(4)
لذا لم يكن غريبا أن يطلق فوكوياما الذى كتب يوما عن «نهاية التاريخ» (1989)، أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتى، مؤكدا الانتصار النهائى لليبرالية، هو نفسه، مقولة مضادة مطلع (2009) عنوانها «نهاية النيوليبرالية»، وهو ما دعانا إلى أن نطلق عليه «كاتب النهايات»..وأن تتوالى الندوات والمؤتمرات والسجالات حول المستقبل، حيث تناولت:
■ مستقبل النظام الاقتصادى، وما سوف يترتب عليه من سياسات تنموية واجتماعية.
■ مستقبل المساواة فى القلب من هذا النظام بسياساته التنموية والاجتماعية قيد البحث، والمساواة التى هى جزء لا يتجزأ من المواطنة: المساواة بين المواطنين بغض النظر عن اللون والجنس والدين والعقيدة والمذهب والمكانة والثروة.
■ أى مواطن نريد تنميته فى ضوء العلاقة المعقدة بين الدولة والسوق التى تم تشبيكها بينهما على مدى عقود ثلاثة منذ أن تم التسويق لاقتصاد السوق.
■ دراسة سياسات الاندماج وأسباب التهميش والاستبعاد، فى ضوء المساواة أو انعدامها.
(5)
حدث كل هذا فى العالم ونحن كنا نقاتل من أجل السياسات النيوليبرالية. لم ندرك أن دولة المواطنة لا يمكن أن تتجسد عمليا إلا بالمساواة وتكافؤ الفرص فى شتى المجالات. وأظن أن فى لحظات التحول، كالتى نعيشها، من الضرورى أن نتطرق لهذه الموضوعات.