(1) دليلنا هذا ينطلق من أن الحركة الدستورية قد مرت بأربعة أجيال تطور فيها النص الدستورى متجاوزا الصورة النمطية (من حيث المقاربة والتبويب وطريقة الربط بين القضايا)، التى لم نزل لا نعرف غيرها.. وأنه من الضرورى أن نصنع دستورا ينتمى للجيل الرابع تقل فيه الفجوة بين النص والواقع.. فالنص الدستورى «4.0» (أى فى طبعته الرابعة)، بات يضع الأطر المفهومية والقانونية والإجرائية التى تعظم من تحقيق المبادئ الدستورية… لذا لم يكن مخطئا من قال: يمكنك أن تعرف نوعية الدستور من تطرقه للأطر القانونية أم لا؟…
فبقدر ما يحيل الدستور النص إلى القانون لاحقا ليفصله بقدر ما يزيد القلق، ونعرف أن النص الدستورى معرض للتقييد أو الانحراف به، عكس ما يقصد بسبب موازين القوى أو الأغلبيات البرلمانية… ما يعنى أن النص الدستورى لم يزل غير مواكب للعصر… والعكس صحيح… وأرجو التصدى لمن يقول إن الدستور ينبغى أن يكون قصيرا… فالقضية ليست الطول أو القصر وإنما فى عملية بناء الدستور والفلسفة الحاكمة له أو ما باتت تعرف فى الأدبيات المعتبرة «بعملية الدسترة» Constitulization…
(2) نعود إلى حديث المعايير التى يمكن للمواطن المصرى أن يستدل بها فيما إذا كان النص الدستورى «عصريا» أم لا؟… وللتذكير فلقد حددنا أربعة معايير؛ الأول: وجود فلسفة حاكمة للنص الدستورى تنطلق من الربط بين المفهوم والإطارين: القانونى والإجرائى، الثانى: مواكبة النصوص لجديد الحقوق فى العالم وتلبيتها تطلعات المواطنين للتغيير، ووضع إطار قانونى لها، الثالث: ألا تأتى المبادئ الدستورية فى درجة أدنى مما كتبت به تاريخيا، الرابع: الاطمئنان ألا يتضمن النص مفردات من زمن فات (عثمانية)… وعلى مدى الحلقات الست الماضية حاولنا أن نقدم أمثلة على ما نقول وكيفية تطبيق هذه المعايير فى ضوء تراثنا الدستورى الوطنى وخبرات الآخرين الدستورية المتميزة والتى حققوا بها انطلاقات مميزة مثل: البرازيل، والهند، وجنوب أفريقيا، وماليزيا، والإكوادور،.. إلخ.
(3) القارئ لهذه الدساتير، سيكتشف إلى أى مدى اجتهدت العقول الوطنية فى هذه البلدان فى شتى المجالات كى تنجز «دسترة» راقية تؤهل هذه البلدان للتقدم… لذا جاءت النصوص الدستورية مواكبة للعصر على كل المستويات… المفاهيم الجديدة التى اخترعها واختبرها العالم مثل: الرعاية الاجتماعية، الوظيفة الاجتماعية للملكية، الدولة التنموية التى توازن بين الحرية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، التمييز بين النظام الاقتصادى والمالى، تعميق مبادئ الديمقراطية التشاركية واللامركزية والمساواة فى الرفاه بين كل المواطنين والاستفاضة فى الحديث عنها: مفهوميا، وقانونيا وإجرائيا…
بالإضافة لتقدم الوعى الاجتماعى فى مقاربة الكثير من القضايا وإدراك أهمية المساواة الطبقية والجهوية فى الحقوق، والتوازن بين الحقوق والواجبات فى منظومة العمل وتجريم الاستغلال، وتأمين حقوق الأقليات من خلال المزيد من الدمج وعلى أرضية مدنية وليس بتلبية مطالب الأقليات لممارستها فى دوائر الانتماء الأولية وتصنيف الأوطان على أساس إثنى… والقراءة المتأنية لهذه النوعية من الدساتير تشير إلى الكيفية التى يتم بها دمج مطالب الفئات النوعية فى المجالات المختلفة… المطالب النسوية تجدها ـ لا فى بنود مستقلة ـ وإنما حاضرة فى بنود العمل والمحليات والمجتمع المدنى… إلخ.
(4) لقد اجتهدنا فى أن يكون هذا الدليل بين أيدى المواطن المصرى وهو يتابع الحالة الدستورية الممتدة منذ تعديلات 2007 وتجددت بعد 25 يناير وإلى الآن… حتى يأتى وقت يمكن فيه التحرر من موازين قوى أظنها تحاول أن تضع دستورا بأثر رجعى.