تركيا الجديدة (6) : المحليات والشركات

 طبقة تحمل رؤية.. أو رؤية تحملها طبقة

تبدأ النهوض بوطنها من المحليات وتنطلق بالنهضة إلى محيطها متعدد الجهات

إنها تركيا الجديدة…

(1)

الانطلاقة الاقتصادية أحد أهم ملامح تركيا الجديدة، لم تكن انطلاقة كمية مالية فى خدمة القلة، وإنما انطلاقة فى إطار رؤية لتركيا الجديدة. لقد وصلت الأحوال فى نهاية الثمانينيات إلى وضع غير مقبول، واستغرق التغيير عقداً من الزمان تقريبا. كانت النتيجة معدل تنمية وصل إلى أكثر من 11% وعملية ديمقراطية متطورة وتصالحاً ثقافياً بين القومية والدين والتاريخ والجغرافيا. إنها النتيجة الحتمية لطبقة حملت رؤية لكيف يمكن بناء تركيا الجديدة والإعداد لمشروعات – كما ذكرنا من قبل – «تخترق العصر»، كانت الصيغة السحرية للشراكة بين الدولة والمبادرات الخاصة. لقد كانت البطالة والفقر وضعف الخدمات والمرافق أحد أهم المظاهر فى تركيا الثمانينيات الذى واكبته زيادة سكانية ونزوح ريفى وتمدد مدينى متدهور شابته بنى تحتية عاجزة وسعت وتيرة اللجوء إلى الدين. وبدأ التقدم من المحليات فى تركيا، كما أشرنا فى المقال السابق، من خلال طبقة عنيت بالعدل الاجتماعى وقدمت نموذجا دينيا متصالحا مع الحداثة. وتعد مدينة إسطنبول، البالغ تعداد سكانها 14 مليون نسمة، نموذجا.. كيف حدث هذا؟

(2)

يشير الدستور التركى إلى أن تركيا تنقسم إداريا إلى سبع مناطق هى: إسطنبول وإزمير وأنقرة وبورصا وكونيا وانتاليا وأدانيا. تقوم إدارة مركزية بإدارة كل مقاطعة. وبحسب المادة 127 من الدستور (بالصيغ التى عدلت بها فى 1995) فإن هناك هيئات إدارية محلية تنشأ بالانتخاب فى هذه المقاطعات والبلديات والقرى. ولعل من أهم ما جاء فى قانون المحليات فى تركيا هو إمكانية دخول الهيئات الإدارية المحلية فى شراكة، بإذن من مجلس الوزراء بغرض أداء خدمات عامة. ويتضمن هذا الإذن اختصاصات وميزانيات بالإضافة إلى العلاقة الإدارية بشكل محكم، ويلاحظ أن انتخاب المحليات لا يتناقض مع الرقابة المركزية حفاظا على الصالح العام.

(3)

فى هذا السياق، نجد بلدية إسطنبول تؤسس شركات مملوكة لها بأسهم لصالح المواطنين وذلك بتشريعات من البرلمان، شركات فى شتى المجالات: النقل البرى والبحرى، والماء والصرف الصحى، والأنظمة الذكية، والقمامة وعملية تدويرها بالكامل، وشركة بيت التكنولوجيا (تقدم خبرتها للبلدية)، وبناء المدن الجديدة (وإحلال العشوائيات) لميسورى الحال والفقراء… إلخ. وتعكس الزيارات الميدانية المكثفة (لوفد محافظة القاهرة) لهذه الجهات المتنوعة عدة أمور:

■ النجاح فى المزج بين السلطة المركزية للمحليات والبلديات وشركات لها حرية حركة فى إدارة هذه المرافق، تهدف إلى توفير خدمات لكل شرائح المجتمع من المواطنين على قاعدة «حقوق المواطن»، وفى الوقت نفسه تراعى الشركات فى تطورها الاستراتيجية الاقتصادية التركية العامة للتوسع الاقتصادى خارج تركيا، حيث تراعى المجالات الحيوية التى تتحرك فيها تركيا: أوروبا وجمهوريات آسيا السوفيتية السابقة والمنطقة العربية.. كذلك وضع خطط طويلة الأمد تمتد إلى منتصف القرن الحالى.

(4)

القارئ للميزانيات الخاصة بهذه الشركات وخطط تطورها وقدراتها التقنية العالية لابد أن ينحنى تقديرا لما تحقق. فعلى سبيل المثال: فى مجال القمامة تجد الفرز يبدأ من المنبع أى من المنازل، ويتم نقلها إلى مكانين رئيسيين، أحدهما فى الجهة الآسيوية من إسطنبول، والآخر فى الجهة الأوروبية، ويتم توظيف القمامة بعد تحويلها فى توليد الطاقة. أما عن ضبط حركة المرور فحدث ولا حرج، فمن خلال تقنيات إلكترونية وتصميم لسوفت وير تركى خالص يتم التحكم فى المرور مركزيا على مدار اليوم. أما عن السكك الحديدية فنجد مخططاتها تعكس تحديثا دقيقا للتوسع محسوباً ليس بالساعة وإنما بالدقيقة والثانية من حيث اختصار مدة الرحلة فى المجمل ومدة الوقت المستغرق بين المحطات وامتداد الخدمة إلى أوسع نطاق وزيادة المستفيدين مرة ونصف المرة (من 11 مليوناً إلى 27 مليوناً) خلال الفترة من 2004 إلى 2016، ليس فى الداخل التركى فقط، وإنما يمتد العمل إلى مناطق الجوار.

تركيا الجديدة لا تنمو كميا وإنما نوعيا، ويظهر ذلك جليا فى الطبيعة التحديثية التى تظهر بوضوح فى كل هذه الكيانات. إن التوافق بين النخب السياسية والثقافية والعسكرية وعموم الناس حول بناء تركيا الجديدة لم يكن سهلا لكنه جرى وباتت تركيا قوة صاعدة فى عالم اليوم.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern