’’من واقع الحركية المجتمعية والحيوية الفكرية الأوروبية الراهنة؛ فإن النزعة المواطنية ــ “Citizenism” ــ (المواطنيزم)؛ تعني أن يمارس الإنسان المواطنة في دوائر حركته المتعددة وطول الوقت...أي على مدى ساعات يومه الأربع والعشرين‘‘...هذه هي خلاصة التجربة الأوروبية...
في هذا المقام، عنيت الكتابات المُحدثة بفهم حركية "التمدد المواطني القاعدي الجديد"، والقضايا التي يدافع عنها، وخطابه، وطرق التعبير الجديدة، والقاعدة الاجتماعية التي ينطلق منها،...،إلخ. ورسم خريطة دقيقة ــ قدر الإمكان ــ عن ألوان هذا التمدد. ومدى التداخلات التي تتم بين هذه الألوان
تجاه قضايا بعينها. كذلك التمايزات بينها في قضايا أخرى. وما جديد "الديناميكية الحركية" التي تمارسها هذه الحركية. وجديد "الحيوية الفكرية" التي أنتجتها الحركات والأحزاب المواطنية الجديدة والمتجددة على اختلافاتها: أولا: اليسارية واليمينية والخضراء الجديدة. وثانيا: المطالبية والاحتجاجية. وثالثا: الشعبوية والقومية المتجددة...كذلك ما هي ملامح السياق المجتمعي الجديد الذي حل بالقارة الأوروبية. والأهم هو ما هو جديد جدول الأعمال الأوروبي... وقبل كل ذلك ما هي القيمة أو القيم التي صارت دافعة للنزوع المواطني.
بداية، أدرك الأوروبيون لأسباب كثيرة ــ اجتهدنا في شرحها على مدى حلقات سلسلة المواطنيزم ال21 السابقة ــ بأن "المواطنة" هي الكلمة السحرية التي يجب أن يترجمها الإنسان في حياته فكرا وسلوكا وممارسة. وتتمثل حياة الإنسان في ما يعرف بدوائر الحركة التي يتحرك فيها. وقد حددنا هذه الدوائر في أربع دوائر وذلك كما يلي: أولا: الدائرة الشخصية Personal. وثانيا: الخاصة Private. وثالثا: السياسية Political. ورابعا: العامة Public. أو ما أطلقت عليه: ال “4Ps”...بهذا المعنى لم تعد المواطنة مجرد ممارسة وطنية أو سياسية/مدنية. وإنما حالة نزوع لممارسة دائمة في شتى مساحات الحركة الإنسانية.
ولعل من أهم ما دفع إلى تنامي النزوع المواطني هو إحساس الإنسان بأن له دور يتجاوز دوريه السياسي والمدني المباشرين إلى أدوار تعنى بالحفاظ على البيئة ضد انكارها وسوء استخدام مواردها وانهاكها وانضابها. والنضال من أجل ضمان تسليمها ناضرة للأجيال القادمة وهو ما يعكسه مفهوم التنمية المستدامة. والدفاع عن سلام المجتمع ضد الإرهاب والعنف المجتمعي. ومقاومة منظومة الفساد بأشكالها الظاهرة والخفية. وضمان إعمال العدالة والإنصاف. وتأمين مساحات التعبير المتنوعة، ليس فقط السياسية والمدنية، وإنما الفنية والأدبية والثقافية. ما يضمن تحقيق عملية تجديد فكري وديني وفني شاملة ومتكاملة في سياق حياة كريمة.
وبهذا تتجاوز المواطنة الاجتهاد الرائد الذي طرحه عالم الاجتماع الانجليزي، وأول من نظر للمواطنة في العصر الحديث، منتصف القرن العشرين، ت. هـ. مارشال ( 1893 ــ 1981)، الذي يربط المواطن بأدواره في اكتساب الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية ــ وفق موقعه في الجسم الطبقي ــ من خلال علاقاته بالمؤسسات الدستورية القائمة والأنظمة الاجتماعية الرعائية والحمائية والخدمية المتنوعة...كيف؟
تجاوز ينقل مفهوم المواطنة من مجرد: ’’دور يمارس لاكتساب الحقوق في إطار موازين القوة في الجسم الاجتماعي إلى مسئولية يلزم ممارستها لبلوغ الحياة الكريمة للجميع دون تمييز‘‘...
إنها ما يمكن أن نطلق عليه ’’المسئولية المواطنية‘‘...
ويشير أحد الباحثين إلى أن معنى المسئولية هنا متحرر تماما من الفهم المحافظ للمسئولية الذي روج له تراث الفكر المحافظ: السياسي والديني، الذي كان يقوم بالتخديم على التاتشرية والريجانية أول من اطلقا اقتصاد الليبرالية الجديدة فبوش الابن لاحقا، حيث تبلورت حالة من الشمولية الاقتصادية بفعل الاحتكارات والعولمة. ما أثر على العملية الديمقراطية وفي القلب منها المواطنة. ومن ثم كان لزاما اتخاذ موقف من الشمولية الاقتصادية، خاصة بعد الأزمة الاقتصادية الأسوأ في التاريخ والتي حلت بالكوكب في 2008، مثلما حدث ضد الشمولية السياسية في أوروبا الشرقية في 1989، وقبل ذلك ضد الشمولية الثقافية في ثورة الطلبة التي انطلقت من باريس في 1968.
إذن المسئولية المواطنية تبلورت من حصيلة المواجهة مع الشموليات. يضاف إليها الضرورة التي فرضت نفسها على المواطنين من جراء الآثار السلبية المتعددة الأبعاد لانتهاك البيئة. ما أثار حفيظة قطاعات عديدة من الأوروبيين من تداعيات الأخطار المترتبة على هذا الانتهاك. كذلك حصاد عصر العولمة من "ضحايا" و"مساوئ" و"سقوط حر" بحسب تعبيرات عالم الاقتصاد "جوزيف ستيجليتز"، الأستاذ بجامعة كولومبيا ـ الحاصل على نوبل في الاقتصاد عام 2001. ما أدى إلى "شروخات" عميقة في نموذج دولة الرفاه الأوروبية بتنويعاتها المختلفة. كذلك أثر سلبا على محاولات تجاوز دول أوروبا الشرقية تأخر انطلاقها مقارنة بدول أوروبا الغربية...
وتقوم المسئولية المواطنية على المقومات التالية: أولا: النقد الشمل. ثانيا: إعلاء المصلحة الوطنية العليا. ثالثا: بلوغ حياة كريمة للجميع. رابعا: مقاومة الاحتكار السياسي والاقتصادي والثقافي المهيمن منذ منتصف القرن العشرين وذلك بخلخلة ما هو مستقر من أفكار وتكتلات وسياسات. خامسا: مراجعة الكثير من الملفات وإعادة ترتيب موضوعات الاهتمام في جدول الأعمال الأوروبي مثل: جدوى الاتحاد الأوروبي، ودولة الرفاه، العلاقات الدولية،...،إلخ...أخذا في الاعتبار أن المسئولية المواطنية ليست حكرا لأحد وإنما هي متاحة للجميع لأن هدفها الجميع. فهي نزعة ليست طبقية بالمطلق أي تدافع ــ مثلا ــ عن حقوق الطبقة العاملة دون غيرها. وليست نزعة فئوية ضيقة تحامي من أجل فئة بعينها. وليست حركة مطالبية متخصصة. إنها نزعة جامعة لكل المتضررين حيث تتقاطع فيها الطبقة والفئة والجيل والجنس والعرق بالإضافة إلى التوجه السياسي...تجمعها ’’المسئولية‘‘ الإنسانية لإعادة بناء أوروبا جديدة...ونتابع...