’’المواطنيزم‘‘...(21): النزعة المواطنية ومستقبل أوروبا

’’أوروبا في أزمة...أوروبا في دورة تحول تاريخية جديدة...أوروبا تواجه زمن الحركات الاجتماعية الجديدة...أزمة الديمقراطية الأوروبية العريقة...‘‘...
انطلقت، تحت هذه العناوين وغيرها، الكثير من الحوارات والكتابات الفكرية والسياسية في محاولة لفهم الحركية المجتمعية النشطة منذ نهاية 2011 فيما بات يسمى في الأدبيات "بالربيع الأوروبي". والتي تجلت في الآتي: أولا: بزوغ حركات وأحزاب جديدة. تتأسس من أسفل. وتعتمد على التش

بيك الرقمي في تنظيمها. وتخوض الانتخابات وتحقق الانتصار. وهي الحركات والأحزاب التي تضم: اليسار الجديد، والقوة الخضراء الصاعدة، والليبراليين الديمقراطيين الجدد. ثانيا: الانطلاق السريع التنادي ــ "الكثير التحور" ــ للحركات "الاحتجاجية" و "المطالبية" و "الشارعية" كظهير مساند للحركات والأحزاب الجديدة. ثالثا: الحضور المتجدد للشعبويين والقوميين. إنها الحركية المجتمعية التي واكبها ــ على الجانب الآخر ــ رابعا: أفول الأحزاب القديمة...
وقد أجمع كل من شارك في هذه الكتابات والنقاشات على أن هناك ضرورة إلى مقاربة الحركية المجتمعية الأوروبية من منظور يتجاوز علم اجتماع الحركات الاجتماعية التقليدي. وذلك لأن تحولا جذريا قد طرأ على السياق المجتمعي الأوروبي مغاير كليا عن المتعارف عليه تاريخيا بفعل التضاعف المعرفي والتجدد التكنولوجي غير المسبوقين في التاريخ الانساني. وذلك بحلول الألفية الجديدة. التي سرعان ما تدشنت بكارثة اقتصادية كوكبية عُدت ــ وبالإجماع في الأدبيات الاقتصادية ــ هزيمة لسياسات الليبرالية الجديدة التي كانت تلف حول مدارها ــ لأربعة عقود تقريبا، أحزاب يمين ويسار الوسط الحاكمة في أوروبا. كما تعايشت معها أحزاب اليسار في العموم في هذه الفترة. واتبعتها الأحزاب الجديدة التي حكمت في دول المنظومة الاشتراكية السابقة لعقدين وأكثر...ومن ثم بات من المحال فهم الواقع الأوروبي الجديد بالمنطق المعتاد والمعايير القديمة.
فيما يتعلق بالسياق الأوروبي الجديد فهناك أربعة ملامح أساسية رصدتها الكثير من الأدبيات كما يلي:
أولا: أن هناك تغيرا جذريا قد طرأ على العملية الديمقراطية. منها تحرر عناصر القاعدة التصويتية من سيطرة المرشحين بفعل روابط: الولاء، أو الوصاية، أو التبعية الوظيفية، أو شبكة المصالح، أو الحزبية التقليدية، أو الزبائنية السياسية،...،إلخ. ما يعني القدرة المواطنية على إحداث تغيير نوعي في العملية التصويتية. أو إمكانية الضغط المواطني المدني العام الذي بات ناجعا في استقطاب كتل تصويتية ــ كانت تصوت للأحزاب القديمة ــ لصالح الأحزاب والحركات الجديدة. لذا وجدنا تراجعا وصف بالزلزال للكثير من الأحزاب التاريخية.
ثانيا: اخفاق أفكار وسياسات النخب والمؤسسات الحاكمة بشكل ثابت ومستقر منذ الحرب العالمية الثانية من الاستجابة لمطالب المواطنين، حيث نسبة كبيرة منهم شباب من جيل الألفية الجديدة(جيل ما بعد جوجل)، الذين ينتمون إلى خريطة طبقية متشعبة ومعقدة باتت تستوجب رسما جديدا للجسم الاجتماعي الأوروبي. كذلك رصدا لحركيتهم الجديدة التي تتسم بالحيوية الشديدة والحركية المستمرة بفعل التقنيات الرقمية. وفي هذا المجال نشير إلى الحوار واسع النطاق حول دولة الرفاه الأوروبية، وكيفية سد فجوة التفاوتات المتنوعة. وبلورة رؤية طازجة للعمل وعلاقاته،...،إلخ...
ثالثا: تعقد الخريطة الإثنية الأوروبية على مدى خمسين عاما بفعل، من جهة: الدول ذات الطبيعة الإثنية والقومية والثقافية التي تأسست في أعقاب تفكيك الاتحاد السوفيتي أو نتيجة التدخلات الخارجية كما جرى في يوغوسلافيا القديمة. ومن جهة أخرى: الإثنيات الوافدة إلى أوروبا آسيوية كانت أو إفريقية أو عربية بما تعتنق من أديان وأفكار متنوعة. ما خلق تحديا مركبا في كيفية التوفيق بين الخصوصية الثقافية الأوروبية والوحدة الأوروبية الجامعة. وكيفية استيعاب الوافدين الجدد في الجسم الأوروبي بصورة طبيعية. أخذا في الاعتبار كيف أن الطبقات الوسطى والدنيا والمنبوذة ونتيجة للأضرار الاقتصادية التي طالتهم قد تراوحوا في مواقفهم بين اليسارية الباحثة عن العدالة والكرامة الإنسانية والحمائية من تداعيات العولمة العابرة للحدود...وبين القومية التي تحميهم من تنافس الوافدين الجدد إلى أوروبا. وهنا يحدث التشابك بين الحركات الجديدة والمتجددة.
رابعا: ويعتبر الفساد، واسع الانتشار في البنى المؤسسية السياسية والمدنية: الحكومية والحزبية وما يؤدي إليه من تمييز متعدد ومركب، أحد أهم العناصر الدافعة إلى إحداث اختلالات بنيوية في العلاقات بين من يقدر ــ وهم قلة ــ وبين من لا يقدر وهم الكثرة المواطنية.
في ضوء العناصر السابقة ولد "المواطن الإنسان"، الذي تدور تطلعاته ليس في بلوغ أفكاره السياسية التي يعتنقها، وإنما إلى تحقيق الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية له ولآخرين قد لا ينتمون مثله إلى نفس تحيزاته الأيديولوجية...إنها ميلاد ما بات يعرف بشكل دارج وشائع في الكثير من الأدبيات ب حركة “We the People”...وإن كنت أفضل استخدام تعبير "نحن المواطنون" “We the Citizens”؛ التي تنم عن التنامي من أسفل لقوة جديدة. هذه القوة التي نجحت في لم التقاطعات المختلفة التي نتج عنها تبلور تيار رئيسي ممتد متنوع الطبقات والأجيال ويجمع بين الجنسين له نزعة مواطنية (أو درجنا على أن نطلق عليه المواطنيزم" “Citizenism”؛ على مدى الحلقات ال20 من هذه السلسلة التي تشرفت بمتابعة الكثيرين لها)...ويبقى السؤال إلى أي مدى ستكون نجاعة هذه النزعة ومدى ديمومتها وكيف...الأكيد إنها ستبقى ما بقي النخب القديمة ومؤسساتها تقاوم أو الأزمة التي بدأنا بها مقالنا. ما يطيل مرحلة التحول...ونتابع حديثنا...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern