هل تكون سنة 2019 سنة محورية كما كان العام 1979؟...إنه سؤال الساعة...
ففي محاولة لفهم تنامي الحركة المواطنية ذات التجليات المتعددة: الخضراء، واليسارية، والليبرالية الديمقراطية الجديدة، والمطالبية، والاحتجاجية، والشعبوية المتجددة،...تكثر التحليلات والدراسات والندوات. وهو ما حاولنا إلقاء الضوء عليه من خلال سلسلة مقالاتنا المعنونة "المواطنيزم"؛
التي رأينا فيها أن هناك نزعة مواطنية تحكم حركة المواطنين في أوروبا ممن ينتمون للطبقات الوسطى والفقيرة والمنبوذة(المعروفة في الأدبيات البريطانية بطبقة البريكاريات) بسبب "الغضب" من إخفاق نخب ومؤسسات وسياسات التي دأبت على الحكم منذ الحرب العالمية الثانية. وبعد تأصيلنا للتحولات التاريخية التي اوصلت أوروبا للحظة الراهنة. قمنا بقراءة خريطة احزاب وحركات المواطنية الجديدة اليسارية والخضراء والليبرالية الجديدة. وفي مقالنا الأخير بدأنا الحديث عن الشعبوية المتجددة التي تعد امتدادا للشعبويات التي صنفناها بما يلي: أولا: "التاريخية الزعائمية" كما تجلت في حالتي ناصر مصر وبيرون في الأرجنتين. وثانيا: "الشعبوية الحركية" كما جرى في رومانيا. وثالثا: "الشعبوية الحزبية" التي تأسست في شمال أوروبا.
وقد حاولنا أن نؤكد أنها ظاهرة حقيقية لها حضور أكيد ولكن ليس بالضخامة التي يجسدها الإعلام. ودليلنا على ذلك نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت في مايو الماضي. لكن هذا لا يمنع أن السؤال الاستهلالي في هذا المقال بات متكررا وهو يتعلق تحديدا "بالشعبوية المتجددة"...فما هو، أولا: المشترك بين سنتي 1979 و2019؟...وما علاقة الشعبوية المتجددة في هذا الإطار؟...
أولا: تعتبر سنة 1979 هي السنة التي أتت بالمرأة الحديدية مارجريت تاتشر التي أسست لتحالف بريطاني أمريكي، بعد تولي رونالد ريجان مقاليد الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1980، حيث أطلقا سياسات الليبرالية الجديدة الاقتصادية والتي كانت لها آثار شديدة السلبية على النظام الاقتصادي العالمي. وهي السياسات التي كانت مدعومة فكريا بما عرف بالمحافظين الجدد الذي كان يتبنى نزعة يمينية محافظة: دينية وسياسية وثقافية. ووصلت إلى ذروة الإخفاق مع الأزمة الاقتصادية الكارثية التي حلت على العالم في 2008. وهناك من يستعيد هذه اللقطة التاريخية ويجدها تشابه اللقطة الراهنة المتمثلة في وصول كل من ترامب وبورنسون إلى الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية (2016) وبريطانيا(2019) على التوالي في إطلاق الشعبوية الراهنة.
ثانيا: وتشير أكثر من دراسة إلى أن تبلور الخيارات المتطرفة: المحافظة في 1979، والشعبوية في 2019، إنما يعكس مدى الارتباك المجتمعي بفعل إخفاقات النخب التقليدية في التعبير عن احتياجات عموم المواطنين...ما يؤدي إلى فراغ سياسي تشغله تلقائيا نخب جديدة تستقوى بالقواعد المواطنية التي لا تجد من يُعبر عنها : الوسطى والدنيا والمنبوذة.
الفرق بين لقطتي 1979 و2019 هو أن الارتباك المجتمعي الأول كان يرافقه ارتباكا أيديولوجيا وفكريا على مستوى اليسار واليمين لأسباب كثيرة. ما أدى إلى انفراد المحافظين بإدارة التوجهات العامة المجتمعية لعقود بدرجة أو أخرى على قاعدة الكتل الدينية والإثنية. أما الارتباك الراهن فيشهد حضورا متعددا لتوجهات فكرية تراجع نفسها بجدية وتقدم بدائل تعبر عن تطلعات وهموم التيار الرئيسي لعموم المواطنين. لذا رأينا في أوروبا كيف أن هناك حضورا للحركات والأحزاب المواطنية الجديدة لليسار الجديد والليبرالييين الديمقراطيين(اللذان يميزان نفسهما عن اليسار التاريخي واليمين المتشدد) والخضراء. ومن ثم فإن التحالف، المحتمل، الجديد ستكون أطروحته من ضمن عدة أطروحات. وليس كما كان تحالف الماضي يفرض ــ قسرا ــ أطروحة واحدة أدت إلى كارثة اقتصادية ومجتمعية عالمية لم تزل تداعياتها فاعلة إلى يومنا هذا.
ويشكل هذا التعدد صمام آمان في ألا يستاثر الشعبويون بإدارة المجتمع. نعم سيتواجدون في العملية السياسية الديمقراطية بدرجة متزايدة. وهو ما تعكسه الأرقام على مدى ثلاثة عقود. أي منذ 1989 وإلى يومنا هذا. والتي تشير ايضا إلى تنامي وجود التيارات الأخرى الجديدة. كما سيكون للسياقات السياسية/الاجتماعية لدول أوروبا تأثيرها في نجاح الشعبويون في تشكيل حكومات في بعض الدول، والمشاركة مع تيارات أخرى في تشكيل الحكومات في البعض الآخر. أو ممارسة دورا ضاغطا في البعض الثالث...
أي أننا سنشهد حضورا متزايدا للشعبويين. ولكن النزعة المواطنية الجديدة التي تبلورت ــ بالأساس ــ بفعل الغضب من النخب التاريخية الحاكمة وأفكارها التي باتت قديمة ومؤسساتها المترهلة وسياساتها الفاشلة سوف تكون عنصر تطويق يمنع انفراد الشعبويون أو الفاشيون أو اليمين الأقصى المتشدد دون اقصاء. ذلك لأن الخبرة التاريخية حية في العقل والوجدان الأوروبيين. وأقصد تجربة الفاشيين والقوميين في الحكم ثلاثينيات القرن الماضي. والتي حكمت باسم المواطنين ولكن سرعان ما انفصلت عنهم والأهم نكلت بهم. ذلك لأن النزعة المواطنية في جوهرها هي نقطة تحول تاريخية في المسيرة التاريخية للعملية الديمقراطية. وظني أنها بصدد تبلور نخبة جيلية جديدة تعبر عن ألوان الطيف السياسي. وتنتمي إلى زمن الألفية الجديدة.
وبالأخير، لعلنا نكون قد أجبنا على السؤال الاستهلالي الذي طرحناه في بداية المقال...ولكن سيظل الأهم مثارا وهو لماذا الصعود الشعبوي؟ وإلى أي مدى ستتعايش مجموع حركات وأحزاب النزعة المواطنية الجديدة؟...وهو ما سنحاول الإجابة عليه في الأسابيع القادمة...صحيح إنها اسئلة عن المستقبل ولكنها جديرة بالتفكير...