المحللون المتابعون للشأن الأوروبي؛ منقسمون حول توصيف طبيعة اللحظة التاريخية التى تمر بها. البعض يرى أن أوروبا فى حالة تحول كبرى... والبعض الآخر يراها تعانى أزمة مركبة... وفى الحالتين هناك ما يفرض علينا تأمل وتحرى ما يتفاعل ويجرى فى القارة الأوروبية لما سيكون له من تداعيات وآثار على باقى الكوكب... أكتب هذه السطور، قبل يوم من انطلاق انتخابات البرلمان الأوروبى يوم 23 مايو والتى ستستمر حتى 26 مايو. وتحظى هذه الانتخابات بأهمية كبيرة لأنها سوف تعكس، بحسب البعض، التحولات الكبرى التى تشهدها أوروبا بفعل الحركية المجتمعية/المواطنية الجديدة بتجلياتها الحزبية والحركية المختلفة: اليسارية واليمينية والقومية والشعبوية والحقوقية المطالبية والاحتجاجية،...،إلخ. كما أنها تأتى، بحسب ما يركز البعض الآخر، بعد عقد من الأزمات المتشابكة على المستويات: الداخلية لكل دولة على حدة، والبينية بين دول القارة الأوروبية، وبين القارة الأوروبية وغيرها من القوى الدولية القديمة والصاعدة. فما الجديد الذى تحمله هذه الانتخابات؟
تشير المتابعة الدقيقة للحملات الانتخابية فى دول القارة الأوروبية إلى أننا نشهد انتخابات يمكن أن نستخلص وصفها من مجمل الحقائق التى تأكدت عبر الواقع العملي؛ بأنها انتخابات: أولا: النخبة السياسية القديمة مقابل الحركية المواطنية القاعدية الصاعدة. ثانيا: بين الكيانات الحزبية القديمة وبين الحركات والأحزاب المواطنية الجديدة. ثالثا: تتنافس فيها مصالح القلة الثروية (الأوليجاركية) الأوروبية العليا فى مواجهة داعمى مطالب الشرائح الاجتماعية الدنيا. رابعا: بين أنصار حماية النموذج الوحدوى الأوروبى وجوهره الاقتصادى وبين المناضلين من أجل حق/حقوق المواطن البسيط/المواطنين البسطاء فى أوروبا. خامسا: بين دعاة سياسات تعيد انتاج عدالة منقوصة وبين كتل الضغط المواطنى من أجل عدالة تامة. سادسا: التدريجيين الإصلاحيين الذين لا يرغبون فى المغامرة أو المخاطرة والآخرين الذين يؤمنون بأنه آن وقت التغيير الجذرى... تشير الحقائق الخمس السابقة عن عمق التناقضات المثيرة للفورة الراهنة فى الجسم الاجتماعى الأوروبى والتى تبلور أن هناك حالة يقظة مواطنية تكاد، بحسب إحدى الكتابات الصادرة مؤخرا، تجعل من الفكرة اليونانية القديمة حول دور المواطنين/الشعب Demos؛ فى العملية الديمقراطية السياسية حاضرا بقوة. ما دفع بإحداث ــ ولا يزال ــ تغيرات بنيوية فى العملية السياسية بمكوناتها وعناصرها المختلفة فى دول أوروبا بدرجات متفاوتة على أرض الواقع من جهة، وفى التمثيل السياسى فى البرلمان الأوروبى من جهة أخرى.
وتبين لنا دراسة تحليلية مقارنة مهمة حول انتخابات البرلمان الأوروبى فى دورتيه الأخيرتين: 2009 و2014؛ طبيعة ما جرى فى أوروبا عموما والذى انعكس على تشكيل البرلمان الأوروبى فى هاتين الدورتين. ومن ثم توقع أن تكون تشكيلة البرلمان القادم أكثر تعبيرا عما يجرى فى أوروبا من تحولات بفعل النزعة المواطنية المتنامية بتجلياتها المتنوعة... كيف؟
بداية تصنف الدراسة السابقة القوى السياسية فى أوروبا إلى نوعين هما: أولا: القوى الحزبية والسياسية التقليدية. ثانيا: القوى الجديدة (حركية كانت أو حزبية). ثم ترصد الدراسة كيف أن هذه الأحزاب والحركات القديمة والجديدة تعيد تنظيم نفسها قبل الانتخابات سواء فى داخل كل دولة أوروبية أو عبر القارة بما لا يمنع من تحالف بعض القديم مع بعض الجديد أو بين القديم فقط أو الجديد فقط. ووفق ما سبق، تضع الدراسة تصنيفا للتحالفات السياسية، حيث يعددها فى تسع قوى، شاركت فى انتخابات 2009 و2014 على التوالى. كذلك عدد المقاعد التى حصلت عليها، (نقدم دورة 2014 نموذجا والتوقعات للبرلمان القادم)، وذلك كما يلي:
أولا: اليسار الموحد/اليسار الأخضر النرويجى ولديه 52 مقعدا ويتوقع أن يحصل على 46 مقعدا.
ثانيا: الاشتراكيون والديمقراطيون ولديهم 186 مقعدا ويتوقع لهم الحصول على 149 مقعدا.
ثالثا: الخضر/تحالف أوروبا الحرة وعندهم 52 مقعدا تزيد تقريبا إلى 57.
رابعا: تحالف الليبراليين والديمقراطيين ولديهم 68 مقعدا تزيد وفق التوقعات إلى 76 مقعدا.
خامسا: حزب الشعب الأوروبى ولديه 217 مقعدا ستنقص إلى 180 مقعدا.
سادسا: المحافظون والإصلاحيون حيث حصدوا فى 2014 76 مقعدا سوف تنقص فى انتخابات الغد إلى 66 مقعدا.
سابعا: تحالف الحرية والديمقراطية المباشرة فإنه من المتوقع أن تحصل على 45 مقعدا بزيادة 4 مقاعد (41) عن الدورة المنتهية.
ثامنا: أوروبا القومية/قوميات أوروبا والحرية التى لديها 37 مقعدا ولكنها ستستطيع أن تزيد حصيلتها من المقاعد إلى 62 مقعدا.
تاسعا: غير المنتمين إلى أحزاب (مستقلون) حيث ينهون الدورة الحالية بـ 21 مقعدا وقد كان لديهم 52 مقعدا فى بدايتها ولا يتوقع لهم إلا الحصول على 8 مقاعد فقط فى برلمان 2019... وتشير الدراسة إلى أن هناك قوة عاشرة جديدة سيكون لها حضور فاعل فى البرلمان المقبل تصنفها تحت اسم: «آخرون» ويتوقع أن يحصدوا 62 مقعدا. هكذا يكتمل البرلمان الجديد بعضوية 751 عضوا.
وتدلنا القراءة السريعة لما سبق على أن القوى البازغة بألوانها المختلفة سوف تحصل على مقاعد أكثر. وأن القوى التقليدية سوف تفقد الكثير من المقاعد بالرغم من أنها ستظل محتفظة بالأغلبية. إلا أنه فى المحصلة سوف نجد أن مجموع مقاعد التحالفات الجديدة بالإضافة إلى غير المصنفين سوف تكون ــ بدرجة أو أخرى ــ متوازنة مع القوى التقليدية. ما يعنى تنامى النزعة المواطنية وشرعية وجودها وتزايد الضغط من أجل إحداث تغييرات جذرية لمصلحة المواطن الأوروبى البسيط..