من الظواهر اللافتة التي استوقفت كل المراقبين لانتخابات البرلمان الأوروبي هو هذا الصعود الواضح "للكتلة الخضراء"السياسية. وأقصد بها تحالف أحزاب الخضر في أوروبا. فأغلب التوقعات لم تضع في حسبانها قدرة هذا التيار على أن يكون رقما فاعلا في التركيبة السياسية الأوروبية.
فلقد كان نصيب "الخضر" من مقاعد البرلمان الأوروبي (751 مقعدا) في برلمان 2014 خمسين مقعدا. ارتفعت أثناء الدورة البرلمانية إلى 52 مقعدا(انضم إليهم عضوين من الكتل الأخرى التي تبلغ سبعة كتل خلاف الخضر من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين بالإضافة إلى كتلتي المستقلين وغير مصنفين). صحيح أن التوقعات كانت تؤكد على أن الخضر لن يخسروا ما بلغوه في برلمان 2014 . ولكن التوقعات رأت أنهم لن يحصلوا إلا على خمسة مقاعد إضافية لا غير. إلا أن النتائج: المفاجأة، التي نتجت عن الاقتراع الأوروبي الذي شهد حراكا "مواطنيا" قاعديا وشبابيا للمشاركة، غير مسبوق منذ 20 عاما(بنسبة تقترب من 55%)، قد أوصل "الخضر" إلى 69 مقعدا. أي أنهم حصدوا 17 مقعدا اضافيا مرة واحدة على المستوى القارة الأوروبية. ما يعد لافتا وجديرا بالبحث. والأهم أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. فلقد نجح "الخضر" في أن يصعدوا صعودا لا يمكن تجاهله في أكثر من دولة أوروبية. فلقد أصبح الخضر في فرنسا الكتلة السياسية الثالثة بنسبة 12% بعد التيار القومي( حزب التجمع الوطني اليميني المتشدد)، والتيار الليبرالي اليميني الذي يمثله ماكرون (أو حزب الجمهورية إلى الأمام الحاكم). أما في ألمانيا فلقد احتل "الخضر"(المعروف باسم أنصار البيئة) المركز الثاني في قائمة الأحزاب المتنافسة بنسبة 21% من إجمالي أصوات الناخبين الصحيحة.
ويجمع الباحثون على أن هذه الموجة السياسية الخضراء تعبر عن "المزاج السياسي للشباب" للأسباب التالية: أولا: أنه لم يعد يرى في اليمين واليسار التقليديين القدرة على تلبية احتياجاته. ثانيا: جدية القضايا التي يتناولها "الخضر" وتمس المواطن/الإنسان مباشرة في حياته اليومية. والتي يثبت الزمن أنها قضايا مصيرية انسانية ليس لأوروبا فقط وإنما للكوكب أيضا.ثالثا: المقاربة العلمية الصارمة التي يتبعها "الخضر" في تناول القضايا المختلفة من حيث: اختيارها، وعرضها على الجمهور والرأي العام، ومنهجية مناقشتها البرلمانية. رابعا: جودة الصياغات التشريعية التي يقدمها "الخضر" للتصويت عليها والتي تنم عن معرفة علمية واجتماعية رفيعة المستوى خاصة وأنها تتعلق بقضايا مركبة تحتاج إلى ثقافة عريضة. خامسا: الحصول على المساندة المواطنية الملائمة خاصة وأن هذه القضايا في الأغلب تتشابك مع مصالح "الكرتلات" الكبيرة وسياساتها. كما تحرج الساسة والأحزاب التي تصر على ثانوية قضايا البيئة. وذلك إما لأنهم سياسيون لا يدركون إلى أي مدى تتداخل القضايا البيئية مع الكثير من المنظومات في شتى المجالات. أو أنهم متورطون في حماية هذه الكرتلات، لسبب أو لآخر. ما يزيد من ضجر الشباب والطبقات: الوسطى والدنيا والمنبوذة، ويدفع بالحراك المواطني المتعدد الأشكال.
لقد أنشغل "الخضر" منذ انطلاق حركتهم، نهاية السبعينيات، بتنظيم أنفسهم حيال التعاطي المدمر للبيئة من قبل: أولا: المنظومة الرأسمالية ورفض قسوتها في "إنضاب" ما منحته الطبيعة لكوكب الأرض من موارد وثروات. وثانيا: السياسات الحكومية التي تصب في تفاقم المسألة البيئية. ولفت النظر إلى الآثار الجانبية المتنوعة: صحية، واقتصادية، وأمنية، التي ستلحق بالمواطنين/البشر من جراء التدمير الممنهج من قبل السياسات الرأسمالية والحكومية. ولا ننسى موقف "الخضر" المناهض من الأسلحة النووية كليا. ويوثق كتاب هام، صادر في عام 2016؛ عنوانه: "الأحزاب الخضراء في أوروبا"؛ بزوغ حركات البيئة والخضر مع نهاية السبعينيات وإلى الآن في كل القارة الأوروبية. وكيف أن هناك كثير من الدول بات لديها العديد من التشكيلات الخضراء...
ويسجل الكتاب أيضا تطورها من كونها تشكيلات: أولا: تدافع عن القيم مابعد المادية. وثانيا: ناقدة لمساوئ الثورة الصناعية. وثالثا: أنها منحازة للطبيعة فيما تتعرض له من تهديدات يفرضها منطق السوق...إلى حركات وأحزاب لديها رؤى مجتمعية وسياسية شاملة...رؤى مؤثرة على أطراف العملية السياسية الديمقراطية لجعل ملف البيئة ملفا له أولوية قصوى، من جانب. ومن جانب آخر، رؤى ضاغطة على المؤسسات التنموية المدنية والدولية كي تُعمل نقدا ذاتيا للمقاربة التنموية التي تروج لها وكان من نتيجتها الفشل في تحقيق حياة كريمة وعادلة بين الشمال والجنوب من جهة. وبين الأثرياء وغيرهم داخل الغرب نفسه. ومن هنا كانت البداية في بلورة مفهوم التنمية المستدامة في صورته المركبة والذي يحمل نقدا لليبرالية الجديدة وشركاتها التي تعمل على تدمير البيئة بأشكال مختلفة...ما كان سببا في بلورة "حسا اجتماعيا لا مناص منه. ودعم فكرة المسئولية الاجتماعية لدى الشركات"، والتنازل قليلا عن "جني الأرباح" فقط على حساب البيئة وعدالة الاستفادة منها من قبل جميع المواطنين(راجع كتاب زيمرمان: الفلسفة البيئية ــ 2006)...والأهم هو صياغة رؤية نقديةلاقتصاد مضاد للرأسمالية “Anti-Capitalist”؛ ومضاد للعولمة “Anti-Globalist”؛ (راجع كتاب بابل وما بعدها واقتصاد الحركات الخضراء الراديكالية ــ 2005). وهي رؤية تحمل نقدا حادا ومباشرا للنظام الاقتصادي العالمي المأزوم منذ 2008 وحتى الآن...ما جعل "الخضر" حركة مواطنية بامتياز...كيف؟...هذا ما نجيب عنه في مقالنا القادم...