’’المواطنيزم‘‘...(12): الخضر في خدمة المواطنين

لم يكن أكثر المتفائلين بحركات البيئة يتصورون مع بدء انطلاقها في السبعينيات من القرن الماضي، في فرنسا من خلال تحالف حركات البيئة، وإنجلترا من خلال ما عُرف "بحزب البيئة"، وفي ألمانيا بواسطة "حزب الخضر"، أنه سيأتي اليوم الذي تصبح فيه قوة سياسية فاعلة وحاضرة ومؤثرة في التركيبة السياسية الأوروبية.

لقد حركات وأحزاب الخضر في ثلاثة مراحل رئيسية منذ سبعينيات القرن الماضي وإلى الآن، وذلك كما يلي:

أولا: المرحلة الدعوية: وهي المرحلة التي بدأت فيها هذه الحركات التعريف بالأخطار التي تتهدد البيئة بسبب اتباع نموذجا اقتصاديا يهدر الموارد والثروات الطبيعية ويؤدي إلى افساد البيئة ويؤثر سلبا على حياة البشرية ومستقبل الكوكب. ثانيا: المرحلة الحقوقية والدفاعية والضاغطة: وهي المرحلة التي لعبت فيها حركات البيئة أدوارا متنوعة في مجالات: حقوق البيئة، وحقوق الإنسان البيئية، التطبيق الفوري للاقتصاد الأخضر الحافظ للبيئة، والدفاع عن قضايا البيئة بكل ما يتعلق بها من إشكاليات مثل: السكان والغذاء ومستقبل الموارد ونموذج التنمية الملائم،...،إلخ. وإثارة في المجال العام والإعلام والاستفادة في هذا المقام من الاجتهادات الأكاديمية التي تناولت الملفات البيئية المتنوعة من جهة. وللتقارير الدولية المعتبرة التي بدأت تتوالى عن أحوال الكوكب مثل: تقرير نادي روما الشهير(1972)، وتقريرمستقبلنا المشترك الذي قدمته اللجنة العالمية للبيئة والتنمية التي شكلتها الأمم المتحدة ــ آنذاك ــ (1983)، وغيرهما، و من ثمممارسة الضغط السياسي والاجتماعي والثقافيبهدف بلورة موقف مجتمعي وحكومي يدافع ويعمل لصالح رعاية البيئة والطبيعة والإنسانية. ثالثا: مرحلة الانخراط المباشر في العملية السياسية: وذلك بغرض التأثير في السياسات الحكومية القائمة كي تكون في خدمة البيئة وحماية مواردها، وترشيد استخداماتها، ومعالجة التدهور المتنامي الذي يهدد قدرتها ــ ليس فقط ــ على التجدد وإنما على البقاء. وهو ما يمثل "خيانة" في حق الأجيال القادمة والمستقبل.

وشهدت مسيرة "الخضر" من الدعوة لقضايا البيئة، إلى الفعل السياسي الانساني/المواطني مرورا بالدفاع والضغط، الكثير من المساهمات المتميزة في المساحات المختلفة التالية:

أولا: تطوير طبيعة الحركات الاجتماعية.

ثانيا: إطلاق المبادرات المواطنية المبتكرة المتعددةالمضامين من حيث جدية القضايا موضوع هذه المبادرات وعمق تناولها.

ثالثا: تنوعالتشكيلات التنظيميةالثرية الاهتمامات والمتشابكة المجالات.

رابعا: الاعتماد على المواطنين في وهي مسيرة يصفها أحد الباحثين بأنها قدمت:"رؤية بديلة وجديدة لديمقراطية تشاركية"، حقيقية وعملية، قادرة على استيعاب شرائح اجتماعية عريضة متعددة الثقافات والانتماءات حول قضايا البيئة والانسان. وفي هذا المقام، أشير إلى عبارة كنبها أحد الباحثين بلغة أدبية واصفا هذه المسيرة كما يلي: "لقد نجح أنصار حركات البيئة أو الخضر ــ الدعويون، والدفاعيون، والمحتجون، والسياسيون ــ على أن يعبروا بالحركات البيئية ــ والأحزاب لاحقا ــ من تخوم شاطئ السياسة عبر بحرها ذات الأمواج المتلاطمة بواسطة مركب الانشغال بالقضايا البيئية المصيرية بالنسبة للإنسان/المواطنإلى برالسلطة البرلمانية والحكومية".

وخلال هذه الرحلة حافظ "الخضر" على نقاء الدعوة وفي نفس الوقت ناضلوا من أجل الدفع في استصدار تشريعات وابتكار سياسات تصب في صالح الانسان/المواطن. فلقد حملت رسالتهم بعدا انسانيا على المستوى الأخلاقي وبعدا مواطنيا على المستوى السياسي ما جعل "الخضر" تجسيدا عمليا وحيا "للنزعة المواطنية “Citizenizm”؛ لذا استطاع "الخضر" أن يضموا إلى صفوفهم تنويعات سياسية متنوعة. وأن يجددوا الخطاب السياسي النمطي من خلال مقاربات مبتكرة ومركبة متعددة المستويات تقوم على سياسات تواجه الأضرار الناتجة عن الاقتصاد الرأسمالي الذي لا يبالي إلا بمصالح أصحابه الضيقة. وما يترتب على هذه الأضرار من إفقار لقطاع عريض من البشر أو من يصفهم البعض "بضحايا التنمية" الرأسمالية. وتخريب للبيئة بفعل خيارات صناعية وزراعية وتقنية تزيد من الأرباح للقلة على حساب البيئة والمواطنين. ما يؤدي إلى تفاقم الفقر وزيادة أعداد الفقراء واستحالة الحياة الكريمة لهم من جهة. وتهديد عموم الإنسانية بالدمار من جهة أخرى...

من هنا يحسب "للخضر" نجاحهم في صياغة رؤى وأفكار وسياسات تربط بين "المناداة باقتصاد جديد يراعي العدالة والحياة الكريمة الإنسانية للمواطنين ويعنى بالبيئة والطبيعة قوية ونضرة وعينه على مستقبل آمن للأجيال القادمة...فمن خلال تهجين السياسة بأفكار مثل: التنمية المستدامة، الصناعات الخضراء، الاقتصاد الأخضر، انتاج أكبر بإمكانيات أقل، البديل الأخضر، وغيرها من الأفكار الجديرة بالتفصيل لاحقا...

وعليه باتت "قضايا البيئة ومستقبل الإنسانية" من أولويات جدول أعمال السياسة اليومية بفعل حركات/أحزاب الخضر ما مكنهم من أن يكونوا بحق "قوة خضراء" تصعد بهدوء في دوائر: المجال العام، والبرلمان، والحكومة. تستمد قوتها من المواطنين وتتبنى كل ما هو في صالحهم وتناضل من أجله...وهكذا انتقلت’’الفكرة الخضراء ــ الانسانية النزعة ذات الطبيعة الأخلاقية ــ من الدعوة بضرورة العناية بالطبيعة والبيئة إلى الحشد والضغط المواطني والسياسي من أجل ابتكار السياسات الخاصة بالطبيعة والبيئة ، شريطة ربطها بنموذج التنمية، وجعلها موضع التنفيذ‘‘...

وبعد أربعة عقود يمكن القول أن "الخضر"، قد نجحوا في جعل ملف "البيئة" بمعناه الواسع والمركب هو واحد من أربعة ملفات أساسية للقارة الأوروبية بمؤسساتها المختلفة. فبالإضافة "للبيئة" هناك: ثانيا: "ملف التنمية وتضييق اللامساواة بقدر الإمكان، وكيفية تطوير دولة الرفاه. ثالثا: ملف الأمن. ورابعا: ملف الحدود وكيفية التعامل مع الوافدين والمهاجرين إلى أوروبا...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern