البيريسترويكا ، ضرورة ملحة نشأت من عمليات التطور العميقة فى مجتمعنا الاشتراكى. فهذا المجتمع ناضج للتغيير، ويتوق إليه منذ أمد طويل. وأى تأخير فى بدء البيريسترويكا كان بالإمكان أن يؤدى إلى تفاقم الوضع الداخلى فى المستقبل القريب...
وردت الكلمات السابقة فى كتاب: البيريسترويكا لميخائيل جورباتشوف (1931)،سكرتير الحزب الشيوعى للاتحاد السوفيتى السابق فى نهاية الثمانينيات. وقد كان كتاب جورباتشوف الناقد للأوضاع السوفيتية ــ آنذاك ــ الدليل الحاكم لمخطط التغيير الذى قاده من أعلى لمعالجة تصدعات إمبراطورية السوفيت.
وبعد عشرين عاما، تقريبا، ردد جوردون براون (1951 ــ )، الذى أنتخب رئيسا لوزراء بريطانيا لثلاث سنوات (2007 ــ 2010) كلمات زلزالية حول فشل الليبرالية الجديدة. فلقد قال نصا: إن إجماع واشنطن الذى ظل مسيطرا لمدة 40 سنة داعما سياسة الأسواق الحرة فى كل بقعة من بقاع الأرض، قد استنفد أغراضه Free markets has come to an end. وأضاف: إن مقولة دعه يعمل، دعه يمر قد فقدت صلاحيتها. وهى الكلمات التى اعتبرها قادة ال G20 (الدول العشرين الكبيرة، وقتها، من خلال نقاشات مؤتمرهم الذى انعقد عقب كلمات جوردون براون)، ما يفيد بأن المنظومة الرأسمالية قد طالها عطب تاريخى بفعل الأزمة المالية العالمية الأسوأ فى التاريخ الإنسانى. ما فتح الباب لممارسة نوع من النقد التاريخى للرأسمالية. أو لنقل بيريسترويكا للرأسمالية الشرسة السائدة.
وهكذا أصبحت البيريسترويكا الكلمة الروسية التى تعنى إعادة البناء كلمة مهمة فى التاريخ السياسى للبشرية. ذلك لما طال بنية كل من المنظومتين الاشتراكية والرأسمالية على السواء من اختلالات حالت دون تلبية الوعود التى قطعتها، وبشرت بها كل منظومة لتوفير حياة كريمة للمواطنين. ومن ثم ضرورة النقد والمراجعة وبلورة رؤى جديدة تنجح فيما أخفقت فيه المنظومتان من خلال الممارسة السياسية عبر المؤسسات والنخب والسياسات التى تم اتباعها فى التجربتين: أولا: السوفيتية ومن استنسخها. وثانيا: الليبرالية الجديدة ومن تبعها.
صحيح أن البيريسترويكا قد أسهمت فى التأسيس لفكرة إعادة البناء أو التصويب الذاتى للتجارب السياسية التى تمس ملايين البشر وفق قاعدة أخرى ــ غاية فى الأهمية ــ أطلقها جورباتشوف، أيضا، هى المكاشفة والوضوح أو جلاسنوست بالروسية. إلا أن كل من البيريسترويكاتين (إذا جاز أن نكتبها بهذه الطريقة) السوفيتية والليبرالية الجديدة ــ على أهميتهما ــ قد تمتا من أعلى دون مشاركة المواطنين؛ ذلك لأن إعادة البناء ــ فى الحالتين ــ أن تحدث تجديدا جذريا يؤسس لشراكة مؤسسية حقيقية للمواطنين. بيد أن هذا لم يمنع من أن يأخذ الشباب زمام المبادرة بطرق عدة للتعبير عن وجهات نظرهم فى الواقع الأوروبى وضرورة الاستجابة إلى التحديات التى تنتج عن تحولات جوهرية تاريخية تكشف عن عالم بات حافلا بمجالات توتر خطيرة جدا. بالرغم من أنه كان من المفترض أن تحظى البشرية بميزات التقدم التكنولوجى من جهة. وأن يكون لها نصيب عادل من عوائد العمليات الاقتصادية بما يضمن لها حياة كريمة.
وترصد لنا الدراسات أن هناك ما يمكن أن أصفه ببيريسترويكا المواطنين. أو إعادة بناء من أسفل يحملها على كتفه جموع المواطنين على اختلاف ألوانهم، وتنوع اللافتات التى ينضوون تحتها فى كل بقعة من بقاع أوروبا على السواء: الغنية والمتقدمة فى الشمال والغرب. والمتفاوتة الاقتصادات ومن ثم التقدم فى الجنوب والوسط والشرق. وذلك من خلال الحركات والأحزاب المواطنية الجديدة التى تضم أطيافا متعددة من الاتجاهات كما يلي: أولا: الشعبويون، وثانيا: القوميون، وثالثا: الحقوقيون. ورابعا: البيئيون (المدافعون عن البيئة). خامسا: اليساريون الجدد. وسادسا: المطالبيون. وسابعا: العنصريون. وثامنا: اليمينيون الجدد. وتاسعا: الاحتجاجيون. وعاشرا: الشارعيون...،إلخ... إلا أن الواقع والأدبيات تشير إلى أننا ــ وبغض النظر عن التوصيفات ــ فإن هناك ما يجمع بين هؤلاء المواطنين أنهم أبناء الكتلة التى تعانى اللامساواة التاريخية. الكتلة المهمشة والمستبعدة والمنبوذة من السلطة والثروة. ولم تفلح البيريسترويكاتان فى أن تجددا رابطة المواطنة وتدمجهم فى البنية المجتمعية بمساحاتها المؤسسية المتعددة...ومن ثم قرروا أن يقوموا بنفسهم بإعادة البناء من خارج المؤسسات والنخب والسياسات القائمة...وفى هذا المقام نلفت النظر إلى أن هذه الحركية المجتمعية المواطنية الجوهر تواكبها حيوية فكرية تتمثل فى كتابات ما باتوا يعرفون «بالمثقفين النقديين/الراديكاليين Critical/Radical Thinkers تعيد النظر فى كثير من الأفكار، كما تدلى بدلوها فيما يحدث على أرض الواقع. وتعمل على تجديد الفكر الأوروبى اليسارى والليبرالى فى ضوء معطيات الزمن الرقمي/والبيوتكنولوجي/...،إلخ...كما تجدد فى الكثير من المباحث مثل: مبحث الشباب، والتحليل الطبقى، والتعددية الهوياتية، والمواطنة،...
بيريسترويكا المواطنين هى هدف «المواطنيزم» أو السيتيزينيزم أو النزعة المواطنية الجديدة فى أوروبا. بلغة أخرى إعادة البناء الشاملة القادمة من أسفل (تحملها كتلة تتراوح نسبتها ما بين 35 و40%) هى جوهر التفاعلات الجارية بين الـ Establishment و الشارع، فى كل أنحاء القارة العجوز. القارة التى يحلم شبابها (بالإضافة إلى فتيان وفتيات ثانوى الحاضرين فى الحالة الفرنسية بقوة) فى أن تتجدد وأن تخلع عنها ما ترتب عليها من أعباء الحرب العالمية الثانية...أو التحرر من أسر العالم القديم..