المواطنيزم…«4»: إلى الأمام ولكن بأى اتجاه؟

طرح هذا السؤال عالم الاجتماع الكبير ايمانويل والرشتاين, فى كتاب: تحول الثورة «1990»، محاولا الإجابة عن مستقبل الحركات الاجتماعية المعاصرة ذات الطابع الشعبى العريض. أى تلك الحركات التى تضم طبقات وشرائح اجتماعية متنوعة. أى ليست عمالية أو فلاحية نقية...وقبل ذكر الإجابة، نشير إلى أن والرشتاين حاول أن يؤصل للحظة التاريخية التى انطلق فيها المواطنون يبحثون عن حقوقهم فى إطار جمعى يتجاوز الانتماءات الأولية، والنوعية. ومن ثم مسار هذه الحركة ومستقبلها...

كانت البداية، أولا: مع الثورة الفرنسية «1789»؛ حيث سعى المواطنون إلى الحرية والإخاء والمساواة وناضلوا من أجل ذلك من خلال وسائل شتى لنصف قرن تقريبا. ثم بدأ المواطنون فى حصد نتاج نضالاتهم فى صورتها الأولية مع نهاية القرن التاسع عشر.

وجاء منتصف القرن العشرين، ثانيا: مشيرا إلى الاستجابة لطلبات المواطنين، بدرجات متفاوتة، من خلال ثلاثة أنظمة سياسية. أولا: الرأسمالية فى العالم الغربى. وثانيا: الاشتراكية فى العالم الشرقى. وثالثا: دول العالم الثالث أو الجنوب. وقاد العملية السياسية المواطنية فى هذه العوالم الآتى ذكرهم: أولا: الكتلة الديمقراطية بتجلييها اليمينى واليسارى التى تعد الوريث الرئيس لحركات القرن التاسع عشر فى العالم الغربى. ثانيا: الأحزاب التى تنتمى لتقاليد الأممية الثالثة العمالية، وذلك فى العالم الشرقى. ثالثا: حركات التحرر الوطنى التى تعددت أشكال التعبير عنها فى العالم الثالث.

ورضى المواطنون فى العوالم الثلاثة بما حصلوا عليه من مكتسبات. ففى عالم الغرب، تم تأسيس دولة الرفاه حيث وفرت الكثير من الضمانات الاجتماعية الحياتية لمواطنيها. وأدخلوا أسلوب رفع مستويات الأجور الحقيقية من خلال المفاوضات. أما فى العالم الشرقى، فلقد تم تحقيق قدر من الشراكة بين الدولة والمواطنين فى العملية الانتاجية. وأخيرا فى عالم الجنوب، حدثت حراكات اجتماعية كبيرة وكثيرة لشرائح اجتماعية كانت مهمشة قبل الاستقلال الوطنى...

ومع نهاية العقد السابع من القرن العشرين، ظهرت الاختلالات الشديدة فى العوالم الثلاثة على السواء. ويقول والرشتاين أنه: بالرغم تحقيق تقدم، فى البدء، فى ميادين المساواة الاجتماعية والحريات السياسية والتضامن الأممى «باندونج مثالا». إلا أن الحصيلة فى المدى الطويل كانت مخيبة للآمال، بل وشديدة الخيبة. وينطبق رأى والرشتاين على العوالم الثلاثة: الغرب الرأسمالى، والشرق الاشتراكى، والعالم الثالث الحديث التحرر، دون استثناء... ففى الغرب: تزايدت اللامساواة، وتحكمت الثروة فى كل مناحى الحياة. وفى الشرق: تضاءلت الحريات، وهيمنت البيروقراطية على كل المجالات. وبالإضافة إلى ما سبق من مثالب ظهرت فى الغرب والشرق، سار العالم الثالث فى اتجاه: إعالة المواطنين أكثر من تمكينهم. ولم تستطع الانطلاقات الانتاجية الأولى أن تؤمن ضمانات اجتماعية ملموسة ولا على زيادة كبيرة فى الأجور الحقيقية. كذلك تركز مظلة التنمية فى المدن فى الأغلب.

ولا يفوتنى أن أشير إلى كتابات توماس همفرى مارشال «1893 ـ 1981، أول من نظر للمواطنة وصاحب مؤلف المواطنة والطبقة الاجتماعية 1950، وكان لنا شرف تقديمه لقارئ العربية فى منتصف التسعينيات»، التى أدرك فيها أن الانجازات الكثيرة التى حصدها المواطنون ليست كافية. فبالرغم من تحقق قدر من المساواة النسبية فى مجالات جزئية. إلا أن اللامساواة تزداد. ولم تُلغ التفاوتات الطبقية. والأخطر تبلور أشكالا جديدة من عدم المساواة على كل المستويات. وبالأخير، يقول مارشال بضرورة توفر المواطنة بأبعادها السياسية والاجتماعية/الاقتصادية، والمدنية. بلغة أخرى لا يمكن الاكتفاء ببعد واحد من أبعاد المواطنة. وإنما لابد من توفرها بأبعادها الثلاثة. فلا يكون السياسي/المدنى على حساب الاقتصادى/الاجتماعى. أو العكس...وفى هذا السياق، برزت الإشكاليات الثقافية، بالإضافة إلى السياسية والاقتصادية، فى العوالم الثلاثة «الغربى، والشرقى، والعالمثالثى)، والتى يمكن رصدها فى الآتى: الإثنية، والقومية، والدينية، والمذهبية، واللغوية، والجهوية، والجيلية، والجنسية، والبيئية...إلخ.

ويقول والرشتاين «وهنا تكمن إجابته عن مستقبل الحركات الاجتماعية الجديدة» أن عام 1968 كان نقطة انعطاف رمزية فى تاريخ حركة المواطنين ونضالاتهم من أجل حقوقهم. فقبل ذلك كانت الحركة موجهة تجاه السلطة المحلية ممثلة فى طبقة اجتماعية، أو أسرة حاكمة، أو مؤسسة. وكذلك السلطة الاستعمارية الوافدة. ولكن فى 1968 تبين أن السلطة ليست متمركزة فقط فى الحكم، وإنما هى موزعة فى البنى الاجتماعية والثقافية والدينية والاقتصادية والسياسية والمعرفية. وهنا تكمن قيمة ثورة 1968 فى أوروبا، أو ما يعرف بحركة الطلبة. وذلك فى أنها أحدثت تحولا نوعيا فى طبيعة حركة المواطنين. وهذا التغيير هو الذى يشكل طبيعتها ونوعيتها...لماذا؟

لأنها أولا: فتحت الطريق نحو حراك مواطنى متعدد الأشكال والأنماط. وثانيا: لفتت الانتباه إلى أن التقدم والتجديد والتغيير أو الدفع بأية تحولات مجتمعية يجب أن يراعى تجديد البنى المجتمعية المختلفة والتى باتت متخلفة. ثالثا: أطلقت 1968 العديد من الحركات المتنوعة: النسوية، والمناهضة للعولمة، والخضر القديمة والجديدة، والمقاومة للفساد، والمدافعة عن البيئة، والقومية، وغيرها، للعمل كل حركة فى مجالها. إلا أن هناك لحظة ما حددها والرشتاين بأزمة حادة من أزمات النظام الرأسمالى سوف تدفع إلى تحالف/تضامن هذه الحركات معا على تناقضاتها. وهو ما تجسده الحركية المواطنية الجديدة «أو ما اقترحت التعبير عنه بالمواطنيزم/Citizenism» فى أوروبا من حركات وأحزاب جديدة على اختلاف أوضاع دولها.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern