يمكن أن نصف ما يحدث فى أوروبا بأنه عصر المواطن. أو زمن النزعة المواطنية (المواطنيزم/السيتيزينيزم). ويشكل المنخرطون فى هذا النزوع ما يقرب من 40% من إجمالى الكتلة السكانية الأوروبية. وهى كتلة تشعر بأن المؤسسات السياسية الراهنة، ونخبها: الحزبية، والنقابية، وسياساتها لم تعد تعبر عنها. ذلك لأنها أميل إلى تلبية مصالح القلة الثروية العولمية وامتداداتها المحلية.
وقد أشرنا فى مقالنا السابق كيف تبلورت الكتلة المواطنية بفعل سقوط الأبوية/الشمولية الثقافية فى ثورة 1968، وتفكيك الأبوية/الشمولية فى 1989، وإخفاق الأبوية/الشمولية للهيمنة القسرية للأقلية الاقتصادية المعولمة. ما أدى إلى تدهور الأحوال المعيشية للطبقية الوسطى وبالطبع الدنيا، والأخطر تشكل طبقة أدنى من الدنيا والتى وصفت بالبريكاريات أو طبقة المنبوذين أو معذبى الأرض. وتقدر البريكاريات من نسبة الـ15%، وإذا ما أضفنا إليها الطبقة الدنيا وقاعدة الطبقة الوسطى سوف ترتفع نسبة الكتلة المتدهورة إلى ما يقرب من الـ40%..
ولم تتبلور النزعة المواطنية الصاعدة بقوة فى كل بقاع القارة الأوروبية ـ بدرجات متفاوتة بحسب درجة التطور الاجتماعى لكل دولة ـ فى غفلة من الزمن أو فجأة. وإنما يمكن أن نشير إلى أن ارهاصاتها قد تبلورت على مدى عقد من الزمان ـ وذلك منذ أن انطلقت، أولا: المظاهرات المليونية المبكرة المناهضة للعولمة مطلع القرن العشرين وكانت بداية لتكوين الحركات المجتمعية المطالبية الجديدة. والتى تلتها، ثانيا: المظاهرات الرافضة للحرب على العراق والتى شككت فى مدى جدواها للقارة الأوروبية فى عام 2003. وكانت بداية لمراجعة توجهات وسياسات الإدارات الأوروبية المختلفة وبزوغ النزعات القومية والشعبوية المتجددة. وثالثا وأخيرا: المظاهرات الأهم الناقدة للأحوال المعيشية فى دول أوروبا والمنددة بالفقر المتنامى الذى طال شرائح طبقية متعددة فى أوروبا الغربية الغنية. ودولا أوروبية فقيرة. وأثر سياسات التقشف على تفاقمها. كذلك بالفساد الذى بات واضحا. وقد كان من شأن المظاهرات الأخيرة أن جددت اليسار الأوروبى ما بعد الجديد (إن جاز لنا أن نصفه بذلك) على المستويين: الفكري، والحركي...لقد كان لهذه الموجات الحركية المتعاقبة تأثيرها فى بلورة حركة جمعت بين مواقفها: الرافضة والناقدة والكاشفة للحرب، والعولمة، والفقر...وربما تكون المظاهرات الحاشدة التى تم تنظيمها من قبل الحركات والكتل المواطنية الجديدة فى إدنبرة (بريطانيا) عام 2005 هى التأسيس التاريخى لزمن المواطن، وللنزعة المواطنية الغاضبة ضد كل من: Establishment، والـElite،والـPolicies..وفى هذا المقام نشير إلى العديد من المصادر التى من شأنها تعميق الرؤية لما يجرى فى الداخل الأوروبى وأثره الكوكبى (بحسب تعبير اسماعيل صبرى عبد الله). فلا تختزل ما يجرى فى القارة الأوروبية باتجاهاتها الأربعة بأنه مجرد حركات شعبوية أو قومية عنصرية. ذلك لأن هناك حركات يسارية متحررة من المقاربات الساكنة والأشكال الحزبية القديمة بازغة وجيلا معتبرا من المفكرين المجددين. كذلك انطلاق طبعة جديدة أو جيل جديد من الحركات المطالبية المجتمعية.. من هذه المصادر نذكر على سبيل المثال لا الحصر الآتي: أولا: فى رصد الحركات الشعبوية ما يلي: إطلالة على شعبوية أوروبا (2018)، و«بيجيدا» والجناح اليمينى للشعبوية الألمانية (2018)، أنواع من الشعبوية (2013). ثانيا: فى رصد الحركات اليسارية ما يلي: اليسار الأوروبى الجديد واشتراكية من أجل القرن الـ21»(2012)، والحركات والأحزاب الراديكالية اليسارية فى أوروبا (2018).
صحيح أن هناك تناقضا ـ بل تناقضات ـ بين هذه الكتل أو الحركات: المطالبية، واليمينية، واليسارية. إلا أن ما يجمع بينها هو أن زمن إقصاء المواطن قد ولي. وأنه قد حان للمواطنين أن يكونوا سلطة شريكة أو لنقل إنها المواطنُقراطية (إن جاز التعبير) وهى سلطة تعيد النظر فى الديمقراطية التمثيلية التاريخية لصالح ما بات يعرف فى الفكر السياسى المعاصر بالديمقراطية التشاركية. كما تعيد الاعتبار للمواطن بصفته شريكا. من هنا يتشارك المختلفون فى المظاهرات من أجل الضغط فى اتجاه تحقيق اساسيات الحياة الكريمة لليمينى واليساري، والقومى والعولمي، والرجل والمرأة، ولقاطنى المدن ولأبناء الريف، وللمواطنين الأصليين وللمهاجرين،... إلخ. إنها الأساسيات التى لا غنى عنها. لذا باتت الحركة التظاهرية جامعة للمختلفين. فلم تعد حزبية، أو مطالبية ضيقة. وإنما تضغط صوب تحقيق تغييرات جذرية. لذا فمن درس وتابع ردة فعل حركة السترات الصفراء للاستجابة الحكومية بإلغاء الزيادة فى سعر المحروقات سيدرك كيف أن الحركة تتجاوز الجزئيات إلى ما هو تغيير جذرى فى بنية المجتمع السياسى الفرنسي. كذلك باقى الحالات الأوروبية أخذا فى الاعتبار خصوصية كل حالة.
لذا قمنا بوصفها بالمواطنية أو النزعة المواطنية/المواطنيزم... والتى تعد ـ تاريخيا ـ نزعة جامعة تبغى التحرر والعدل والكرامة للجميع وفق تصور انسانى حضارى شامل ومحدد... إنها المواطنيزم... ربما لا يكون لها نص واضح تتبناه إلى أن الباحثين فى أكثر من مصدر قاموا بعمل فذ ببلورة رؤية النزعة المواطنية/المواطنيزم من خلال الحراك الميدانى الأوروبى المتشعب ولعل من أهم هذه المصادر: جيل المواطن(2019)، وغيره. حيث الاتفاق على مثالية وتصحيحية النزعة المواطنية ورغبتها الصادقة فى إعادة المواطن ليكون فى قلب العملية السياسية: المحرك والفاعل والمستفيد الأول بغض النظر عن هويته...وتأسيس زمن المواطن... نتابع الحديث عن المواطنيزم وعن موقعها فى تاريخ النزعات التى تتعلق بحركة الإنسان عبر التاريخ..