(1)
ارتبطت العلاقات المسيحية الإسلامية فى مصر- من خلال قراءتنا ودراستنا للتاريخ- دوما بالسياق الذى تمارس فيه هذه العلاقة.. ففى اللحظات التاريخية التى تتسم بوضوح الرؤية نجد أن العلاقة تميل إلى التعاون والتواصل والتفاعل بدرجة أو أخرى.. وفى اللحظات التاريخية الضبابية والمرتبكة تميل العلاقة إلى القطيعة والتوتر..
فى الحالة الأولى لم يمنع الاختلاف الدينى بين المصريين أن يتكافلوا معا فى مواجهة الظلم الاجتماعى والقهر، وأن يناضلوا معا فى مواجهة الحاكم الوافد أو المستعمر، وأن يتحركوا فى بناء الدولة بمؤسساتها.. إن الاختلاف هنا كان طاقة إيجابية من أجل البناء والتقدم.
أما فى الحالة الثانية فيتم إعادة توظيف الاختلاف باعتباره خلافا يستدعى القتال والسجال والنزاع ليس مع التحديات التى تواجه كلاً من المسيحيين والمسلمين بدون تفرقة، وإنما بينهما بحكم الانتماء الدينى.. فى هذا السياق يستدعى كل طرف كل ما يبرر له الانقضاض على الطرف الآخر أو ما أطلقنا عليه- فى مقالنا السابق- نفى الآخر: بإهماله أو إنكار وجوده أو هدر دمه، ما يعنى التدمير.. حيث يظن كل طرف أنه يستطيع الاستغناء عن الآخر.. غير مدرك أن الخبرة التاريخية والفلسفية تقول إن الذات التى تنفى الآخر يمكن أن تنفى نفسها.. فالذات لا يمكن أن تعرف نفسها إلا بوجود الآخر.
والسؤال، كيف يمكن أن نبنى وطنا موحدا وقويا ومتقدما وأبناء هذا الوطن يجرحون بعضهم البعض «دينيا» ويشكك كل طرف فى إيمان الطرف الآخر؟
(2)
إن السجال الدينى الذى ساد فى الآونة الأخيرة، والذى تجاوز الأروقة العلمية ونزل إلى الناس عبر وسائل الإعلام المتنوعة: المكتوبة والمرئية والالكترونية، قد أدى إلى دخول العلاقات الإسلامية المسيحية دائرة الخطر الصريح.. تخيل معى أيها القارئ الكريم/ أيتها القارئة الكريمة، عندما يرسم كل طرف صورة عن الآخر الدينى تشكك فى عقيدته أو تنكر مقدساته..فأى علاقة يمكن أن نتوقعها بين الطرفين عندما يلتقيا فى الحياة العامة.. إن السجال الدينى بما يتضمن من آراء عقائدية مطلقة وقاطعة عندما تجد طريقها إلى الإعلام، بما لديه من قوة غير محدودة على التأثير- فى زمن قلت فيه القراءة
والبحث الجدى عن المعرفة الحقيقية- إنما يعنى أن يتمثل كل منا مضمون هذا السجال على أرض الواقع- بوعى أو غير وعى فى سلوكيات تتدرج من:
تجنب بعضنا البعض، أو استبعاد لبعضنا البعض، أو فرقة لا تلاقى فيها، أو نزاع جاهز للاشتعال فى أى وقت حتى لو كان لأسباب غير دينية.. إنه تأسيس للخلاف، الذى يعد بمثابة إعلان حرب فى واقع الأمر تستخدم فيها القوة بنوعيها: الناعم والصلب.. وهو ما بتنا نشاهده بشكل منتظم فى السنوات الأخيرة.
والإشكالية أن هذا السجال يستمد مضمونه المعرفى بشكل انتقائى من كتابات أنتجت فى فترات ملتبسة لا ينبغى أن نفصلها عن السياق الذى أنتجت فيه، خاصة أن مجال الأديان المقارنة-بمعناه العلمى الدقيق- قد تجاوز الاستخدام الضيق للاختلاف العقائدى إلى محاولة اكتشاف المساحات القيمية المشتركة التى تفيد فى دعم الشراكة بين المواطنين على أرض الواقع.
(3)
إن السجال الدينى الحالى يكسر قاعدة تم الاتفاق عليها تاريخيا بين أهل الحوار ألا وهى أن «كل طرف من حقه أن يُفهم بمعاييره وبمنطقه «لا بتصورات الطرف الآخر المسبقة».. ومن خلال تفهم حقيقى للسياق الذى وجدت فيه رسالة كل طرف..وفى هذا المقام، تحديدا، يمكن أن نسجل بكل يقين مدى تراجع مناهج البحث وأدواته فى مجال الأديان المقارنة بعد إطلاعها على ما أنجزته- الخبرة اللبنانية فى هذا المقام مثلا- أو الخبرة البحثية العالمية.
ولعلى أسمع صوتا يقول من جانب: وماذا عن مشاكل الأقباط؟ ويرد عليه من الجانب الآخر صوت يقول: وماذا عن المؤامرة التى تريد النيل من الإسلام والمسلمين؟.. وهنا لابد لأصوات متعددة من خارج الجانبين- مع تفهمها لموقف كل جانب- أن تقول :
* بداية هل الإجابة عن هذا تعنى أن نعلن السجال الدينى على بعضنا البعض بكل ما سيترتب عليه من تدمير.. أم أن المطلوب هو استحضار كل ما هو عالق للبحث والنقاش فى إطار المجال العام والوصول إلى تسويات تعترف بالاختلاف والعمل على استيعاب التنوع الدينى فى إطار التعددية المجتمعية بأبعادها المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فتتحقق شراكة المواطنة بالرغم من الاختلاف.