(1)
السجال الدينى- تاريخيا- فى مصر، يظهر ويختفى بحسب السياق المجتمعى واللحظة التاريخية.. فمتى كانت أسباب النهوض متوفرة من:قوى اجتماعية واعية وناضجة، وانحياز للعلم والمعرفة، انشغلت مكونات المجتمع- على اختلافها- بالعمل المشترك من أجل تحقيق التقدم على قاعدة الحوار الوطنى..
على النقيض فإن غياب أسباب النهوض- ومن ثم ما يمكن أن يمثل إطارا جامعا للمواطنين- يدفع كل فرد إلى أن ينسحب إلى دائرة انتمائه الأولى منكفئا على نفسه فى ظل مناخ من الغيبيات والاستدعاءات التاريخية لأفكار من أزمنة الانحطاط والضعف.. (وأشير لتعليق أحد القراء إلى أننى لم أقل قط إن تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية كان «ورديا» كما لم يكن تاريخا «دمويا» مستمرا… وهو ما درسته تفصيلا فى كتابى الأول «الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية فى الشرق الأوسط- 2000» فلقد كانت العلاقات- دوما- تتأثر بشكل وثيق بالسياق المجتمعى العام)، وهنا مكمن الخطورة..
فمع انكفاء كل مكون على نفسه، يمتنع التواصل والحوار- بالرغم من الاختلاف- لأن البناء المشترك امتنع،فيكون الخلاف حاضرا…وعليه يعمل كل طرف على التنقيب عن أسوأ ما لدى الآخر وهنا ينتعش السجال الدينى ومما يزيده انتعاشا التقنيات الإعلامية المتجددة… وهو ما يختلف تماما عن الحالة النهضوية التى تقوم على حوار وطنى يسعى إليه كل طرف كى يقدم أفضل ما لديه وأن يكتشف أميز ما لدى الآخر ذلك لأن الوطن واحد والمصير واحد.
(2)
بيد أن التنامى المطرد للسجال الدينى الذى نشهده على مدى السنتين الأخيرتين- والذى حذرنا منه مبكرا ووصفناه(فى هذا المكان منذ أكثر من عام ونصف) بأنه أقرب إلى الانقسام العام بين المصريين وأنه يعكس تجاوزا لحد الأمان لأنه يؤدي- فى الواقع- إذا ما استمر بهذه الحدة وبهذا الإيقاع ( كما أشرنا فى مقالى الأسبوعين الماضيين) إلى أمرين:
• نفى الآخر
• وتدمير كل طرف للطرف الآخر ما يعنى تدميرا للوطن.
وعلى الرغم من أن جدول أعمال الوطن متخم ببنود أساسية ومهمة ترتبط بموضوع التحول السياسى فى مصر ومستقبله، فإننى أتصور أن مهمة وقف السجال الدينى يجب أن تتصدر أجندة العمل الوطنى لخطورة نتائجها على مستقبل العلاقات الإسلامية المسيحية.. خاصة مع تزايد الجفوة التى رصدها البعض وبخاصة فى الشرائح الوسطى والدنيا من الجسم الاجتماعى وهو ما تعكسه جغرافيا التوتر الدينى فى مصر.. ويساعد الحماس الدينى المتأجج فى كثير من الأحيان- وكما شاهدنا فى 2009- إلى دفع أحداث ذات طابع اجتماعى محض، للاشتعال لمجرد أن طرفيها أحدهما مسيحى والآخر مسلم، بالرغم من أن نفس الواقعة وارد أن تحدث بين طرفين مسلمين أو طرفين مسيحيين.. ومما يفاقم الخطر هو أن السجال الدينى بات مستباحا ومتداولا على الهواء، حيث يطعن كل طرف فى إيمان الطرف الآخر والنتيجة: النفى والتدمير..
(3)
وعليه فإن مبادرة لوقف السجال الدينى تكون واجبة وأتصور أن الأحزاب والمؤسسات الإعلامية والدينية والنقابات والجمعيات لابد من أن تتضافر معا لتبنى مبادرة لوقف السجال الدينى.. وربما يكون المجلس القومى لحقوق الإنسان الجهة الأقرب لتبنى هذه المبادرة والتفكير فى الآلية الملائمة التى تتابعه.. ولا يتعارض هذا مع فتح باب التوقيع الشعبى حولها.. وأتصور المبادرة تقوم على خمسة عناصر أساسية- وفق المادة 46 من الدستور التى تضمن حرية العبادة وإقامة الشعائر للجميع من دون استثناء، وخبرة الحياة المشتركة التاريخية بين المصريين- وذلك كما يلى:
نائب بـ«الشورى» يعتصم بوزارة الصحة اعتراضًا على اتهامه بالتزوير فى «قرار علاج»
وقف السجال الدينى فورا من: تجريح وإساءة وافتراء وإهانة..الخ، فى كل الوسائل الإعلامية وإعمال ميثاق الشرف الإعلامى.
تأكيد مبدأ «المواطنة الثقافية» وتعنى المساواة الكاملة بين المواطنين فيما يعتنقون، واحترام كل طرف لخصوصيات ومشاعر ورموز ومقدسات الطرف الآخر الدينية.
القبول بمبدأ حق الآخرين فى اعتقادهم واحترام الاختلاف.
نائب بـ«الشورى» يعتصم بوزارة الصحة اعتراضًا على اتهامه بالتزوير فى «قرار علاج»
إدراك كل طرف أن حرية التعبير عن ما يؤمن به لا تعنى التطاول على الطرف الآخر، كما لا تعنى الاستعلاء والشعور بالأفضلية فهذا أمر يترك للديان العادل.
نائب بـ«الشورى» يعتصم بوزارة الصحة اعتراضًا على اتهامه بالتزوير فى «قرار علاج»
إن الأساس فى الاجتماع الإنسانى هو الاختلاف والتعدد وليس التماثل والأحادية، وأن الرابطة التى تجمع غير المتماثلين (دينيا ومذهبيا وعقائديا- وبالطبع سياسيا وفكريا) هى رابطة المواطنة.
وأظن أن مبادرة من هذا النوع ضرورة فى لحظة سياسية حرجة وربما تكون بداية لفتح أفق جديد يستعاد فيه المواطن إلى المجال العام بصفته المواطنية فى مواجهة كثير من التحديات التى تتهددنا معا دون تمييز.