(1)
بات الإعلام بوسائله المختلفة، التقليدية والإلكترونية، ماكينة مذهلة للتأثير على إنساننا المعاصر ذهنياً، وروحياً، ونفسياً، ومزاجياً، وعلى تشكيل رؤيته للقيم وللمجتمع وللعالم وللآخر..كذلك تتحكم الرسائل الإعلامية الخارجة من هذه الماكينة ـ وفق ما تتضمنه من محتوى – فى بلورة توجهات ومواقف وتحيزات وردود أفعال المرء، إيجابا وسلبا.. وهو ما جعل الإعلام «مؤسسة مستقلة» بذاتها،
تنافس مؤسسات التوجيه والتنشئة التقليدية: المنزل، المدرسة/ الجامعة، المؤسسة الدينية…إلخ، فاندفعت الأجيال الجديدة ـ لاعتبارات كثيرة ـ تفك ارتباطها بمؤسسات التنشئة التقليدية اعتماداً على الماكينة الإعلامية – نسبياً – فى تلقى المعرفة.. الأمر الذى أدى بالمنشغلين/ بالمشتغلين بقضايا ومجالات الإعلام المختلفة إلى القول بأن إنسان اليوم هو ابن وسائل الإعلام ولاسيما الحديث منها: البصرى – الإلكترونى، وأنه يتشكل وفق ما تتضمنه الرسائل الإعلامية من أنماط ثقافية يتبعها المرء – أحيانا – دون إرادة منه، تأكيداً على سطوة الإعلام المتزايدة.
(2)
فى هذا السياق يصبح الإعلام سلاحاً ذا حدين. فهو من جهة يمكن أن يكون وسيلة لـ«التلميع» و«الترويج» وللهيمنة بالمنطق «الجوبلزى النازى»، ومن جهة أخرى يمكن أن يكون وسيلة للتشويه وللتحريض…إلخ. وكما يساهم الإعلام فى تقديم شخص أو فكرة ما يمكن أن يحرقهما.. وأذكر أنه فى نهاية 2003 وكنت أشارك فى ندوة بكلية الاقتصاد، استوقفنى أحد الصحفيين الشباب ليسألنى سؤالاً لصالح صحيفة عربية شهيرة. أخذت الموضوع بجدية وأمليته الإجابة عن تساؤلاته. تصادف أن سافرت لبنان للمشاركة فى ندوة ووجدت الدنيا وقد ثارت من خلال مكالمات هاتفية عبر البحار حول حديثى فى الجريدة العربية. المهم وجدت أن الشاب الصحفى لسبب أو لآخر قد حرف فى الحوار ومنحنى منصباً غير صحيح. وتنوعت ردود الأفعال التى كانت مؤشراً على أن جديدا قد طرأ على المشهد السياسى العام، أدركت فى حينها تراجع كثير من التقاليد الإعلامية.
(3)
فعلى الرغم من أن الحديث نشر فى جريدة عربية محدودة التوزيع – قطعاً – فإن وكالات الأنباء طيرت الخبر إلى المواقع الإلكترونية وتلقفته صحفنا الوطنية. وأصبح المرء فى مواجهة موقف سخيف فجأة. فعلى الرغم من أنى قريب من الإعلام منذ أن بدأت أكتب فى نوفمبر 1982 من خلال جريدة الأهالى بشكل منتظم مقالات فى صفحة الرأى (ثم فى مجلتى القاهرة واليسار…) فإننى قد حرصت دوما على الفصل بين عملى الذى أقتات منه والكتابة، فلا تستمد الكتابة قوتها من الموقع الذى أنا فيه. لأن المواقع متغيرة وعابرة بينما الكتابة هى الباقية.
(4)
إلا أن ما جرى فى 2003 جعلنى أقرر ألا أعطى كلاماً لأى صحفى فى التليفون. وأن تكون الحوارات المطولة فى أضيق الحدود سواء التليفزيونية أو الصحفية، مكتفياً بمقالاتى التى أكتبها فى الدوريات المختلفة.. ولكنى كنت دائم الملاحظة على ما آلت إليه صناعة الإعلام وكتبت عن ذلك كثيرا، إلى أن اضطررت إلى التعاطى المكثف مع الإعلام لاعتبارات موضوعية.. فوجدت أن هناك إشكاليات حقيقية فى الإعلام تشير إلى أن هناك مسألة إعلامية.