(1)
فى لحظات التحول الكبرى، إذا ما استعرنا عنوان الكتاب الهام لكارل بولانيي (أحد أهم المؤرخين الاقتصاديين فى القرن العشرين) الذى نشر قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، مسجلا طبيعة التغيرات التى طرأت على الإنسانية من جراء الرأسمالية الصناعية ـ آنذاك ـ وطارحا توقعاته المستقبلية على الإنسانية.. فى هذا السياق، اقترب المؤلف من لعبة توازنات المصالح أو «القوى» بتعبيره، فى دعم التحولات وإحداث التغيير بما يعبر عن أحلام المؤمنين بالجديد أو إعاقتها وفق أنصار أن القديم هو الأجدر بالاستمرار وإعمال الاستقرار..
(2)
تمت دراسة ما سبق فى أوروبا، ودراسة الخصومة الناشئة بين قوى تصر على سلامة رؤيتها بنفس القواعد المتعارف عليها.. وبين قوى ترى فى هذا القديم أنه استنفد أغراضه وأنه فشل فى الاستجابة للواقع ولمتطلبات التقدم وتطلعات المواطنين، ومن ثم لابد من تغيير قواعد اللعبة بما يتناسب والواقع الجديد.. وبين هذا وذاك، القديم والجديد، نشأت علاقة مقاومة بينهما، تعكس طبيعة زمن التحولات الكبيرة.. والقارئ لتفاصيل هذه المرحلة فى أوروبا ـ وبحسب كثير من المصادر ـ سوف يدرك أن التجربة الإنسانية جديرة بالتأمل والدراسة لأن هناك الكثير من التشابهات تتعلق بطبيعة الصراع، وعناصره، ومجالاته، تصلح كدروس مستفادة لنا فى إدارتنا لواقع يتسم بتحول كبير.. إلا أنه، وآه من إلا وما بعدها..
(3)
إلا أنه، يبدو لى أن هناك من لم يدرك بعد أنه لا يمكن أن ندير الأمور بنفس المنطق القديم، ذلك لأن هناك مستجدات جذرية طرأت على بنية المجتمع لم يعد ينفع معها نفس الأفكار والممارسات القديمة.. بيد أن المتأمل للمشهد الحالى يمكن أن يضع العنوان التالى: «قديم ينازع.. وجديد يصارع».. فالقديم يرفع شعار: «لا تراجع ولا استسلام».. والجديد ينهج نهج: «عبدة موتة أو قلب الأسد».. ودعونى أدلل على ما سبق بعدة أمثلة..
(4)
لنأخذ قانون «مجلس النواب»، وهو من المفترض أنه مطروح للنقاش المجتمعى.. إلا أن ذلك لم يحدث وتم إرساله إلى مجلس الدولة.. وعندما تقرأ المسودة يجد المرء أن الفلسفة الحاكمة للقانون ـ وبالطبع هناك فلسفة حاكمة لكل قانون ـ فما هى؟.. تجدها فلسفة مقيدة أكثر من أن تكون منفتحة.. وتأتى الحجج لتثبت كيف أن الذهنية التشريعية لم تزل يحكمها منطق قديم.. لذا عندما سمعت بعضها تصورت أننى عدت لعام 1984 وقت النقاش الذى دار حول قانون الانتخابات آنذاك.. كيف؟
(5)
فالقانون يميل إلى الأخذ بالنظام الفردى، بنسبة غالبة مع القائمة المطلقة للفئات النوعية: الأقباط والمرأة وذوى الاحتياجات الخاصة والذين فى الخارج والعمال والفلاحين، (لن أناقش قضية وضع الأقباط ـ لأن هذا حديث شرحه يطول خاصة وقد كرس الدستور الجديد «الملية» فى رؤيته للأقباط، وهو ما كتبنا عنه فى سلسلة مقالاتنا عن دليل المواطن المصرى للدستور العصرى، كما أشير لكلمات المحامى المخضرم لبيب معوض فى حديثه المتميز مع الصديق شارل المصرى فى «المصرى اليوم» منذ أسابيع حول هذا الأمر، وخاصة أن هناك أفكارا كثيرة لمعالجة الغياب القبطى).. أذكر أن النقاش حول القائمة المطلقة فى 1984 كتبت فيه آلاف السطور وكان مرفوضا لأنه غير عادل.. حيث تذهب كل الأصوات إلى حزب الأغلبية.. كما أن الفردى يعنى دعم القلة الثروية القادرة على دخول الانتخابات..
(6)
فهل من المعقول فى ظل دعم التحول الديمقراطى أن نتمسك بالفردى ـ بالأساس ـ بالإضافة إلى القائمة المطلقة.. وكأننا نسير عكس اتجاه التحول الديمقراطى؟! ونتابع…