عولمة أم حرب طبقية عالمية ...4

يمكن اعتبار انحياز الرأسمالية العالمية نحو الأخذ بأفكار الليبرالية الجديدة وجعلها النموذج المثالي الذي يجب الاقتداء به ,مع نهاية السبعينيات ,نقطة تحول جذرية في مسار الإنسانية. وكانت الحجة التي يتم تسويقها ـ بحسب أنصار الليبرالية الجديدة ـ أن من نتيجة الأخذ بهذه السياسات هو ‘التقاء مستويات معيشة الأمم الأغني والأمم الأفقر'(يراجع كتاب السيطرة الصامتة, 2002).

بيد أن هذا لم يتحقق قط’بل زادت فجوات الدخل بين الشرق والغرب والشمال والجنوب’, وتوسعت حدة التفاوت بين البشر في الدول المتقدمة والنامية علي حد سواء, بصورة مذهلة,لم يعرفها التاريخ الإنساني من قبل. وكانت العولمة هي العملية التي حملت توجهات الليبرالية الجديدة إلي العالم. وبعيدا عن البعد الثقافي للعولمة كان التفاوت الحاد في توزيع الثروة والدخل بين البشر هو حصاد عقود من العولمة كان ذروتها أزمة مالية/ اقتصادية عصيبة.
وعلي مدي ثلاث حلقات حاولنا أن نرصد أهم الأفكار التي وردت في كثير من الأدبيات النقدية المعتبرة للعولمة وتداعياتها (وكنا قبل ذلك عرضنا لأزمة السوبر رأسمالية ـ 4 حلقات ـ ولقصة الليبرالية الجديدة 6 حلقات ـ وها نحن نصل في الحلقة الرابعة من هذه الدراسة لنرفع الغطاء الذي وفرته العولمة لعمليات رأسمالية مركبة أضرت بالأغلبية من البشر. كيف؟
(أ) إعادة الاعتبار للقراءة

– التحليلية الاجتماعية
لقد تم إدراك أن العولمة ما هي إلا غطاء لمسار اقتصادي اعتبرـ بحسب الاقتصادي الفرنسي دانييل كوهين ـ انحرافا عن التطور الرأسمالي الطبيعي. حيث نتج عنه تجميد نسبي للأجور, وتقليص قوة النقابات, وتوظيف السيولة الناتجة عن التوسع الاقتصادي لتغذية المضاربات في الأسواق المالية والبورصات بدلا أن تدعم زيادة الأجور. وهنا انكشف الستار عن مشهد يعكس احتداما طبقيا بامتياز.

وفي ضوء هذا المشهد الطبقي الحاد, بما حمل من ظواهر وحقائق مجتمعية مركبة. أعيد الاعتبار إلي ‘القراءة الاجتماعية’ لتداعيات السياسات النيوليبرالية. وهي القراءة التي تعمدت الأوساط الاقتصادية الأكاديمية المحافظة بدعم من الشركات العملاقة, ولوقت طويل, ألا تأخذ بها. علي اعتبار أن الرؤي الاقتصادية تعد من الأمور الفنية. بيد أن الأرقام التي كشف عنها الواقع قد نَشطت مرة أخري القراءة الاجتماعية في محاولة لفهم:
ـ دلالة هذه الأرقام من جهة, وطبيعة المصالح الفاعلة في هذا المشهد الطبقي,ونمط العلاقات بين عناصر العولمة في كل من دول المركز ودول الأطراف.
– لقد حررت القراءة الاجتماعية,في واقع الأمر,العولمة من النظرة الأحادية الثقافية الطابع التي تم التسويق لها بخاصة في أوساط دول الجنوب بما ستحمله من مزايا تدفعهم إلي قلب العالم الحديث. وأسهمت هذه القراءة من خلال الكثير من الدراسات المعتبرة ـ تعرضنا للكثير من أفكارها علي مدي الحلقات الثلاث الماضية ـ في التطرق للأبعاد المختلفة للعولمة ووضع تعريف علمي دقيق لها باعتبارها ‘عملية مركبة اقتصادية / اجتماعية’ عابرة للحدود يحركها بالأساس الشركات العابرة للقوميات والمتعددة / المتعدية الجنسيات والتي باتت أكثر قوة من الدول والمؤسسات السياسية الدولية.

(ب) حديث الأرقام يشير إلي تزايد
الفوارق الاجتماعية
وإذا ما عدنا إلي حديث الأرقام ـ بشكل عام أولا ـ سوف نجد أنه مع انطلاق التبشير بالعولمة وحتي ما قبل الأزمة المالية العالمية التي حدثت في العام الماضي, ازداد تركز الثروة بشكل مطرد وذلك كما يلي:
ثروة 750 مليارديرا في العالم تساوي ما يملكه 3مليارات من سكان الكرة الأرضية ,
وهو ما نتج عنه الأرقام التالية:
20% من دول العالم تحصل علي 80% من الناتج العالمي الإجمالي,
كما تسيطر(هذه الدول) علي 80% من التجارة العالمية,
ويمتلك سكانها 80% من مجموع المدخرات العالمية.

كما كشفت الدراسات أن التفاوت القائم بين الدول يوازيه تفاوت آخر داخل كل دولة, حيث تستأثر قلة من السكان بالشطر الأعظم من الدخل الوطني والثروة القومية, في حين تعيش أغلبية السكان علي الهامش.وهذا التفاوت الشاسع في توزيع الدخل والثروة سواء علي الصعيد العالمي,أو علي الصعيد المحلي.وفي هذا المقام يشير المحلل ‘جاك أتالي’ في معرض تحليله للأزمة الحالية وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية إلي أنها ‘نتجت عن نقص في المداخيل والطلب بالولايات المتحدة, وفي هذا التفسير رجوع واضح للمقاربات الكينزية بل إلي المقاربات ذات النفس الاشتراكي’.وملاحظته أن هناك ‘ارتفاعا كبيرا في أرباح القطاع المالي الذي انتقل نصيبه في الدخل الإجمالي من 14% سنة 1960إلي ما يقرب من 40% سنة 2007’. وهو ما يعني لدي ‘أتالي’:’تفاقم في الفوارق الاجتماعية حيث إن:
1% من السكان الأكثر ثراء في الولايات المتحدة تحصل علي ما يزيد علي 16 % من الدخل الوطني عوض 7 % سنة 1998′
ـ كما أن 50%من العائلات لا تمسك سوي 3% من الممتلكات.
وأثرت هذه الاختلالات بشكل مؤلم علي طلبات الفئات الوسطي التي لم تعد قادرة علي الزيادة في استهلاكها,والدفاع عن وجودها.

(ج) ‘وهم حتمية الليبرالية الجديدة’
كانت هذه الأرقام مدخلا لإنتاج الكثير من الدراسات تحاول في فهم دلالة هذه الأرقام. حيث اتفقت هذه الدراسات(مع اختلاف مناهجها) علي أن العولمة في حقيقتها ـ مع القبول بمزاياها الثقافية, إلا أنها علي المستوي الاقتصادي ـ الاجتماعي تعكس صراعا طبقيا عالميا من خلال ‘أممية رأس المال’,ويشترك في ذلك دول الشمال والجنوب علي السواء. فالهوة بين الأغنياء والفقراء,باتت حقيقة, حيث عرفت توسعا كبيرا في السنوات العشر الأخيرة, بسبب اختلال توزيع الدخل .ولتعويض هذا الخلل لجأت الشرائح الوسطي إلي الاقتراض, وهو ما رافقه في نفس الوقت انخفاض للأجور وازدياد البطالة, ما يعني قلقا اجتماعيا بالنسبة للبعض في إطار الجسم الاجتماعي. وأن حتمية الأخذ بالليبرالية الجديدة أصبحت وهما. وهو ما جعل أنصار الليبرالية الجديدة يقبلون بتدخل الدولة وابتكار آليات ضبط جديدة أو تفعيل ما هو قائم لتصويب السياسات الاقتصادية وضبط الأسواق. والمفارقة أن الاتجاهات الثلاثة الرئيسية: الماركسية والكينزية والليبرالية الجديدة اتفقت علي أهمية تدخل الدولة للزيادة من الطلب والحد من التفاوت. لقد اتفقت هذه الدراسات علي أن العدالة الاجتماعية ما هي إلا سراب ـ بحسب فون هايك أحد أهم آباء الليبرالية الجديدة ـ وهو ما كان له تأثير ضار علي سلامة العلاقات الاجتماعية بين الطبقات في دول العالم المتقدم منها والمتوسط والفقير, بسبب الانقسام الحاد الذي ولدته العولمة ..وفي هذا المقام نذكر أننا حرصنا أن نستعرض كثيرا من ‘الأفكار’ التي وردت في كثير من الأعمال والتي تشير إلي حقيقة العولمة لتعريف القارئ المصري بها مثل: كتاب مالكولم ووترز’Globalization”,وكتاب Jessop : Post – Fordism & the State,ودراسة إسماعيل صبري عبدالله ‘الكوكبة’, ورمزي زكي الليبرالية المتوحشة ومقدمته الدراسية لكتاب فخ العولمة, والكتاب المرجعي الهام:
Globalization and Social Change: People and Places in a Divided World
وكتاب ‘العولمة والعالم ما بعد الكولونيالي’ Globalization And The Postcolonial World,الذي ألفه Ankie Hoogvelt أستاذ دراسات التنمية بجامعة شيفلد, وكتاب البروفيسور ريتشارد لانجورن, أستاذ العلوم السياسية المؤسس لمركز التغير الكوني والحوكمة بجامعة راتجيرز بنيوجيرسي,المعنون:’The Coming of Globalization: Its Evolution & Contemporary Consequences”.
لقد كانت هذه الكتب الموجة الأولي من الكتب النقدية المعتبرة لظاهرة العولمة والتي أوضحت آثارها السلبية علي البنية الاجتماعية. والتي كانت قاعدة لانطلاق موجة ثانية من الكتب كانت أكثر تعمقا في الظاهرة الانقسامية المسببة للصدام الطبقي العابر للحدود ومنها علي سبيل المثال كتاب هورست أفهيلد ‘اقتصاد يغدق فقرا :التحول من دولة التكافل الاجتماعي إلي المجتمع المنقسم علي نفسه (2005). اللامساواة والفقر ومحاولة مواجهتهما لمجموعة من الباحثين (2007). بيد أن الكتاب الأبرز كان هو كتاب ‘الحرب الطبقية العالمية’الذي اتخذ الولايات المتحدة الأمريكية نموذجا لأطروحته.

(د) لماذا العولمة ما هي إلا حرب طبقية عالمية؟
لعل من أهم الكتب التي صدرت في هذا المجال, وحاولت الإجابة عن هذا السؤال من خلال المعلومات الغزيرة والتحليل العميق, هو كتاب Jeff Faux, المعنون:’The Global Class War”(الصادر في 2006).ذلك لأنه شرح بدقة كيف كانت العولمة غطاء للامبريالية الأمريكية كي تتوسع وكان توسعها إيذانا بتأجيج الصراع الطبقي سواء في الداخل الأمريكي أو في دول العالم. وكانت آليات الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية كذلك ما أسماه ـ المؤلف ـ ‘حزب دافوس’ و منظمة التجارة العالمية واتفاقيات التجارة الحرة. الخ.
إن الاقتصاد العالمي أو العولمة ـ بحسب فو ـ لا يحقق نجاحا إن لم يكن مقرونا بالقمة أي بالاقتصاديين الذين يقودون المؤسسات الكونية الاحتكارية الكونية العابرة للحدود. هذه هي المقولة الأساسية لأطروحة ‘فو’. وعليه تسببت العولمة في اللامساواة المتزايدة سواء في أمريكا أو خارجها. والنتيجة أن:
ـ العقد الاجتماعي بين المواطنين علي اختلافهم قد طاله الخلل, بينما تعمق العقد بين القلة التي تملك وتدير المشروعات الاقتصادية الاحتكارية العملاقة.
لقد أدت العولمة إلي أن تدفع الأغلبية الثمن الذي كان ‘اللامساواة’,فلقد اثبت المؤلف أن الحجة التي روج لها الليبراليون الجدد هو أن أفكارهم التي أصبحت النموذج الغالب تتيح الحراك الاجتماعي للمواطنين. بيد أن الدراسات أثبتت أن فكرة أمريكا كمجتمع يتميز بحركية عالية لم تعد حقيقة كما كانت من قبل'(راجع جيمس هيكمان أحد أبرز الاقتصاديين في جامعة شيكاغو). ويقول أن السبب المباشر في ذلك هو نقص القابلية للحراك الاقتصادي في الولايات المتحدة يعود إلي عدم قدرة صغار الموظفين الذين يحصلون علي أجور منخفضة علي الترقي نحو وظائف أفضل. كما أن الوظائف التقليدية تكون من نصيب الطبقة الوسطي. وبالأخير تقلصت الوظائف غير النقابية / الصناعية والوظائف الحكومية. وأرهقت المعيشة هؤلاء فأخرجتهم من سوق التعليم الجامعي الذي كان يمكن أن يقفز بهم إلي مكانة اجتماعية أفضل. ورصدت الدراسات كيف ‘تصلبت البنية الطبقية للمجتمع الأمريكي’, حيث سجلت ازدياد الفجوة الاقتصادية بين من في القمة وبين الباقين وانتفت مقولة أن أمريكا ‘مجتمع لا طبقي’. كيف؟ . هذا ما سنلقي عليه الضوء في الحلقة الخامسة والأخيرة من هذه الدراسة التي تدفع بإعادة النظر في أفكار الليبرالية الجديدة بخاصة بعد إدراك ما أدت إليه علي المستوي الطبقي ولم تنج الدول الغنية من ذلك فما بالنا بالدول النامية والفقيرة وكيف ساهمت السياسات الاقتصادية والاتفاقات التجارية في تأجيج المسألة الطبقية. ونعرض لأفكار جديدة.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern