هدفنا من سلسة مقالاتنا عن “أزمة السوبر رأسمالية”(أربع حلقات) أن نرسم صورة لملامح هذه الأزمة وطبيعتها ونمط تحالفاتها وتداعياتها..ثم درسنا مسار الرأسمالية التي وصلت إلي حالة من التأزم التاريخي ـ غير المسبوقة ـ مع الكساد الكبير في سنة 1929وانحيازها إلي الأخذ بالنيوليبرالية كأيديولوجية تتيح لها أن تخرج من هذا المأزق , من خلال ست حلقات بعنوان “قصة الليبرالية الجديدة من البداية وإلي انتهاء الصلاحية”وحاولنا أن نميز بينها وبين الليبرالية التاريخية التي كانت ثورة علي الإقطاع بمؤسساته وعلاقاته,وعن الظروف التاريخية التي تبلورت فيها, ومصادرها الفكرية والاقتصادية,وكيف وظفت ما أشرنا إليه باقتصاد الحرب الدائمة من جهة والمؤسسات الدولية الاقتصادية في الترويج للنيوليبرالية الجديدة واقتصاد السوق باعتباره المنقذ للبشر والنموذج المثالي الذي يجب الأخذ به…
وهو النموذج الذي زاد من الفجوة بين الأغنياء والفقراء,وأدي إلي أزمة مالية / اقتصادية حادة.
وفي دراستنا الحالية “عولمة أم حرب طبقية عالمية “,وعلي مدي حلقتين,حاولنا أن ندرس ظاهرة العولمة باعتبارها الغطاء الذي تحركت من خلاله الليبرالية الجديدة لنشر مشروعها الكوني.. وإلقاء الضوء علي أهم الأفكار التي ترتبت علي مراجعات معتبرة حول العولمة .. وبدأنا بمقدمة عن طبيعة عملية العولمة وتبنينا تعريف مالكولم ووترز الذي جاء في كتابه المرجعي:” Globalization”1995وأعاد طبع الكتاب طبعة منقحة صدرت في 2000.. حيث عرفها بما يلي:
‘العملية الاجتماعية التي تتراجع أمامها عوائق الجغرافيا أو أية ترتيبات سياسية أو اجتماعية وبحيث يدرك معها الناس أنفسهم أنهم يتراجعون أمام هذه العملية, وذلك بفعل ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات والمعاملات المالية التي تديرها الشركات عابرة القوميات والمتعددة الجنسيات والتي باتت أكثر قوة من الدول والمؤسسات السياسية الدولية,’..
وفي ضوء هذا التعريف قمنا بمسح للأدبيات المعتبرة التي تناولت ظاهرة العولمة بالنقد والكشف عن التداعيات التي أدت إليها, والتي اتفقت في المجمل علي أن ما جري هو حرب طبقية عالمية في واقع الأمر…
(أ) ديكتاتورية الربح
إنها “ديكتاتورية الربح”,لعل هذا الوصف من الأوصاف البليغة التي وصفت بها العولمة..وصاحب الوصف ليس اقتصاديا أو سياسيا وإنما هو الأديبة الفرنسية”فيفيان فوستر” وهو عنوان كتابها الذي أصدرته في العام 2001..ففي هذا الكتاب وضعت خطوطا فاصلة بين العولمة كظاهرة تاريخية تكررت عبر التاريخ الإنساني, تجسدت بالسعي الدءوب للرأسمالية التي نشأت في غرب أوروبا منذ القرن السادس عشر إلي التوسع خارج حدودها تحت مظلة الكشوفات الجغرافية التي ساهمت في نقل ثروات المناطق المكتشفة إلي الداخل الأوروبي مما اسهم في تقدمها لاحقا..
وبنمو الرأسمالية الصناعية, يقول إسماعيل صبري عبد الله, انتشر الاستعمار الأوروبي في آسيا وأفريقيا والاستيطان في الأمريكيتين, فقد كانت الصناعة الآلية الحديثة في حاجة للسيطرة علي الموارد المواد الأولية وكذلك فتح أسواق جديدة لمنتجات تلك الصناعة”.. واستمر هذا السلوك إلي يومنا هذا وما العولمة المعاصرة إلا صورة مكررة من الخروج الرأسمالي من حدوده إلي المساحة الكونية الأوسع…والفرق هو أن الرأسمالية التاريخية كانت تقوم علي احتكارات قومية أي تنتمي إلي دولة محددة ومتخصصة في إنتاج معين وتتمتع بسوق الإمبراطورية التي تسيطر عليها تلك الدولة…بينما تتكون البنية الحالية للرأسمالية من شركات متعددة / متعدية الجنسية في حالة اندماج وتركز مالي مهول…
هدف هذه الشركات هو الربح, الذي يعود علي القلة..ويتم تحقيق هذا الهدف في ظل أيديولوجية متطرفة لا تقبل الجدال أو النقد وعلي الجميع قبول ما تطرحه ألا وهي”الليبرالية الجديدة” التي وصفتها فوستر “بالمتطرفة”؟..متطرفة لأنها تروج لاقتصاد السوق الكفيل ـ بدون نقاش ـ بأن يقود البشرية إلي الفردوس الأرضي… بيد أن الربح ولا شيء غير الربح هو في الحقيقة الهدف الذي تسعي إليها القلة الحاكمة للشركات والذي بات أقرب إلي ـ بحسب فوستر “..الجنون,والعصاب والوحش الكاسر الذي يمارس ديكتاتوريته علي البشرية جمعاء فيتسبب في بطالة مئات الملايين ويحكم علي ثلثي البشرية في أن تعيش تحت خط الفقر, ويتخلي عن توفير الخدمات الصحية والتعليمية والعامة…”…وهنا بالضبط مربط الفرس ..
(ب) الإقصاء
في كتابهما “ما العولمة؟:الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكم”,يطرح المؤلفان بول هيرست وجراهام طومسون,السؤال ـ الاستنكاري ـ التالي:
– “…كيف يمكن لنظام كوني,… أن يتدبر أمر استمراره في ظل إقصاء ثلثي سكانه إقصاء منهجيا عن منافع ذلك النظام نفسه؟
قام رفضهما الحاسم لفكرة الإقصاء والتهميش لثلثي البشرية من الاستفادة من عائد نشاط الشركات الكونية التي تحركت في كل مكان من الكرة الأرضية تحت مظلة العولمة, بما تشير إليه نتائج هذا النشاط وذلك كما يلي:
– مابين 54 إلي 70 % من سكان العالم لم يتلقوا سوي 16 % من التدفقات الكونية للاستثمارات الأجنبية المباشرة,
– إن 60 % من تدفقات الاستثمار تذهب إلي ما يقرب من 15 % من السكان (الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأوروبا واليابان),
– وإذا تمت إضافة أهم 10 بلدان نامية من ناحية تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر فإننا نجد أن أكثر من 80 % من هذه التدفقات تذهب إلي 45 % من سكان العالم.
والترجمة العملية لهذا الأمر هو أن “..إن ما يتراوح بين نصف إلي ثلثي العالم (علي التوالي)مشطوب عمليا من علي الخارطة’ الاستثمارية أو بلغة أخري من العولمة.. وبمراجعة الإحصائيات التي وردت في كتاب “ما العولمة؟”, وفي غيره, سوف نكتشف أن “.. اللامساواة في التوزيع العالمي للدخل ..” حالة راسخة ودائمة… وأنه لا توجد أي فرصة لكي تنال المناطق غير الميسورة بأي نصيب من المنافع ,الأمر الذي أدي إلي تفاوتات هائلة وعصية علي التغيير…
عند هذه النقطة,لم يستطع أحد أن يتغافل عن مناقشة تداعيات العولمة علي العلاقة بين الأغنياء والفقراء سواء في السياق الكوكبي أو المحلي أي في داخل الدولة الواحدة…فالانقسام الذي حدث كان حادا..وهو ما دفع للالتفات إلي ما سوف تأتي به رياح العولمة…
(ج) القادم الأسوأ
بدأت تتوالي الاعتراضات علي عواقب العولمة وما آل إليه عيش الفقراء في هذا العالم..فبقاء غالبية سكان العالم بمنأي عن الازدهار يدفع بالقلق من قادم العولمة.. ونشير هنا إلي الكتاب الهام للبروفيسور ريتشارد لانجورن ,أستاذ العلوم السياسية المؤسس لمركز التغير الكوني والحوكمة بجامعة راتجيرز بنيوجيرسي,المعنون:The Coming of Globalization: Its Evolution & Contemporary Consequences”, الصادر في سنة 2001, حيث عرف العولمة ـ بداية ـ بأنها”موتور الرأسمالية الكوكبية والأسواق الكوكبية”..ثم قام بشرح دقيق للأصول التاريخية للعولمة وأهم ملامحها..ثم قدم وصفا تفصيليا للعلاقة بين الاقتصاد الرأسمالي الكوكبي والحكومات والمجتمعات والآليات المتنوعة الضابطة لهذه العلاقات,وأخيرا النتائج المتوقعة من جراء التفاعلات المتوقعة بين هذه العلاقات ..
وعن النتائج المتوقعة يقول “لانجورن” “ان الإيقاع المطرد الذي يتم به الدفع بعملية العولمة سوف يؤدي إلي أخطار جدية علي المستوي الاقتصادي منها:
– كارثة اقتصادية كونية,
– يعقبها فشل محتمل في السيطرة علي الأسواق والتي سوف تشهد حالة من الفوضي,
كذلك أخطار علي المستويين السياسي والاجتماعي منها:
– فوضي سياسية واجتماعية نتيجة للتحلل المطرد للكثير من المؤسسات المتعارف عليها في المجالين العام والسياسي.
كان من الممكن أن يستمر الحال علي ما هو عليه طالما أن الأسوأ يحدث في سياق “الثلثين” الذين تم إقصاؤهم من منافع الازدهار..بيد أن الازدهار الجزئي الذي تركز باطراد في أيدي14% من أثرياء العالم قد باتت تطولها المخاطر من : ركود,وقلة الطلب,وسوء توزيع لموارد العالم, ومن مضاربات ونقل ملكية وألاعيب مالية,وتدني الانتفاع بالموارد, والاستغناء عن العمالة , وتزايد المشاكل الاجتماعية في دول المركز نفسه.. وكانت المحصلة التي لم يستطع أحد أن يغالط فيها هو أن:
– استمرار إعادة إنتاج اللامساواة المفرطة في توزيع الثروة علي النطاق الكوني, أمر لا يمكن السكوت عليه..
صفوة القول ان العولمة وإن كانت أتاحت الاستفادة من التكنولوجيا في صورتها المادية المجردة..إلا أن من استفاد منها هو من كانت لديه القدرة الهيكلية علي ذلك..وأذكر هنا ما أشار إليه الدكتور محمود عبد الفضيل في كتابه مصر والعالم علي أعتاب ألفية جديدة(2000):”أن البلدان العربية عندما تدخل ملعب العولمة فإنها سوف تلعب خلف المرمي وليس أمامه.أما الآخرون,فإنهم يلعبون في وسط الملعب,بل هناك من يتقدمون إلي الأمام.وليس هناك شك في أن بلدان آسيا الناهضة تلعب في وسط الملعب بالرغم من الأزمة التي مرت بها,لأنها قامت بعمليات تدريب وتجهيز استمر لمدة ثلاثين عاما؛كي يمكنها أن تلاعب السبعة الكبار .ولذا فإن قليلا من العولمة قد يصلح المعدة .. وكثيرا من العولمة قد يفسد كل شيء’ …
إن بقاء غالبية سكان العالم بعيدا عن عائد العولمة قد أدي إلي بزوغ حركات ذات طابع اجتماعي في دول المركز وجهت نظر الباحثين إلي طبيعة الصراع الآخذ في التبلور ويكشف عن المسكوت عنه والذي حاول الاقتصاد المالي منذ فريدمان أن يستبعده عند أي محاولة لتفسير الخيارات الاقتصادية العالمية ألا وهو التحليل الاجتماعي للظواهر وبخاصة ما ينتج عن هذه الخيارات الاقتصادية ذات الطابع الكوني …
في هذا السياق بدأت بعد منتصف 2005, تصدر الدراسات التي تستعيد التحليل
الاجتماعي في تفسير الظواهر ووصف عملية العولمة بأنها حرب طبقية عالمية …
وهو ما سنوضحه في “أفكار” العدد القادم …