(أ)
أشرنا في الحلقة الأولي من هذه الدراسة ـ في الأسبوع الماضي ـ إلي أنه في معرض تقييم العولمة الذي بدأ مبكرا منذ منتصف التسعينيات,تعددت الدراسات النقدية حول هذه الظاهرة… واتفق المحللون علي أن العولمة ما هي إلا عملية احتكارات كونية من خلال الشركات العملاقة المتعدية/ المتعددة الجنسيات,و جوهر هذه العملية هو تركز الإنتاج والثروة والنفوذ في أيدي عدد محدود من هذه الشركات التي يملكها القلة’…
كان من نتيجتها حدوث تفاوت حاد في توزيع الثروة والدخل بين الناس…فلقد وزع عائد الثروة علي القلة بينما ظلت الأغلبية بعيدة عن هذا العائد فكانت النتيجة هي اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء ليس فقط في دول الأطراف وإنما امتدت الظاهرة إلي دول المركز وهو ما وضح مع كل أزمة اقتصادية عالمية تعرض لها النظام الرأسمالي العالمي منذ منتصف الثمانينيات وإلي الآن…لم يقف الأمر عند ذلك,بل رافقته مجموعة من الاختلالات ذات الطابع الاجتماعي من ارتفاع معدلات البطالة وخفض الإنفاق الحكومي الموجه للخدمات الاجتماعية التي تستفيد منها بالأساس الشرائح الوسطي والفقراء,وهو ما أدي إلي حدوث الكثير من الظواهر الاجتماعية في مجال العلاقات الاجتماعية والتماسك الأسري وتفشي ظواهر جديدة من عينة تزايد عمالة الأطفال …الخ.
ورغم خطورة هذا التفاوت الحاد في توزيع الثروة والدخل..إلا أن هذا الموضوع لم يحظ بأي اهتمام ـ بحسب رمزي زكي في كتابه الليبرالية المتوحشة 1993ـ وذلك حتي مطلع التسعينيات حيث كان منظرو الليبرالية الجديدة من أيديولوجيي السوق يٌرهبون من يتحدث عن التفاوت الحاد بين الأغنياء والفقراء الآخذ في التزايد بأنه ‘مثير للحقد الطبقي ومهدد لسلامة المجتمع (راجع جورج جيلدر أحد الدعاة الكبار للنموذج الريجاني) ومن ثم لا يجوز تشجيع البحث فيه’… وهو النهج الذي التزمت بلداننا به من خلال الدولة بالأساس, حيث الاتهام جاهز لكل من تسول له نفسه أن ينتقد اقتصاد السوق فهذا يعني أنه يريد العودة بالبلاد إلي زمن الفقر وأن هذا الحديث النقدي ينطلق من حقد طبقي ..وتعد فترة السبعينيات نموذجا مثاليا لهذا النهج…
ومنذ الثمانينيات وإلي الآن وبسبب انفراجة مدنية كانت ضرورية لتواكب وتبرر تطبيق سياسات الليبرالية الجديدة…لم يعد من الممكن أن يستمر نهج السبعينيات وعليه مارس رجال الأعمال الجدد أو الليبراليون الجدد بنفسهم تارة ومن خلال المثقفين الذين يعبرون عن مصالحهم تارة أخري الترويج لهذه السياسات باعتبارها السبيل الوحيد للتقدم والتقليل من أهمية التحليل الاجتماعي لتداعيات الليبرالية الجديدة أو العولمة بلغة أخري…والمفارقة أن النقد قد أتي من داخل المنظومة الرأسمالية نفسها بداية من منتصف التسعينيات..
في هذه الدراسات النقدية لم يختلف أحد علي فوائد ثورة الاتصالات والتقدم المطرد في تكنولوجيا المعلومات وإمكانية استفادة مجتمعات الجنوب من هذه الثورة مثلما فعلت الهند والصين…بيد أنها أعادت الاعتبار بحسم إلي أهمية التحليل الاجتماعي لآثار العولمة حيث تدرجت في التحليل بشكل مهم ومتميز من: الرصد الدقيق للسياق المجتمعي العالمي, مرورا برصد ما جري من تحولات في العديد من القطاعات,ووصولا إلي تحليل مركب للظاهرة بمستوياتها المتعددة…
(ب)
تنوعت الدراسات وتعددت اتجاهات أصحابها, وأظن أن مراجعتها في هذه المرحلة المفصلية التي يراجع فيها العالم نفسه في الكثير من الخيارات ربما يكون مفيدا.. ونشير هنا إلي تصنيف للكتابات التي تناولت موضوع العولمة قام به أستاذان معتبران في السياسة الاجتماعية هما البروفيسور Vic George بجامعة كنت والبروفيسورPaul Wilding بجامعة مانشستر في كتابهما الذي اشتركا في تأليفه المعنون:” العولمة والرفاهة الإنسانية “Globalization & Human Welfare2002 ,حيث صنفا المقاربات التي اقتربت من العولمة إلي أربع مقاربات كما يلي:
مقاربة ‘المتحمسين التكنولوجيين’ Technological Enthusiasts ,
مقاربة “المتشائمين الماركسيين” Marxisant Pessimists,
مقاربة”العمليين التعدديين” Pluralist Pragmatists,
مقاربة “الدوليين المتشككين”,
وبعد استعراض مقاربة كل تيار طرح الكاتبان مقاربة خامسة سمياها:
مقاربة الاقتصاد السياسي A Political Economy Approach,
حيث اعتبرا هذه المقاربة قادرة علي التحرر بعض الشيء من النظرة الأحادية التي قد تلون كل مقاربة من المقاربات الأربع السابقة…فمقاربة الاقتصاد السياسي في وجهة نظرهما قادرة علي الأخذ في الحسبان التداخل والتفاعل بين القوي الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية التي تشكل عملية العولمة,في ظل هيمنة الفكر النيوليبرالي المانح الشرعية لعملية العولمة و المحدد لردود أفعال الدول والمؤسسات الدولية والوطنية وكيف يتجسد كل ذلك علي أرض الواقع من خلال الأسواق الحرة…
وتعود أهمية هذه الدراسة لأنها فتحت طريقا لنقد العولمة أكاديميا من دون الاتهام بالتحيز السياسي..وفي نفس الوقت رصدت الأطروحات المختلفة حول العولمة,والتي تبين أن أكثر المتحمسين لها لم يستطع أن ينكر آثارها السلبية..
في هذا السياق سوف نستعرض بعض الكتابات التي تناولت العولمة منذ منتصف التسعينيات والتي سبقت صدور كتاب “العولمة والرفاهة الإنسانية”, ـ المشار إليه أعلاه ـ ثم نقدم ما تضمنه هذا الكتاب,وما تلته من كتابات وصولا إلي كتاب مهم صدر منذ عامين في الولايات المتحدة الأمريكية حيث تعامل مع العولمة باعتبارها حربا طبقية عالمية بوضوح تام…
(ج)
من الكتابات المبكرة التي تناولت العولمة من منظور اجتماعي نشير إلي ما يلي:
* التقرير الذي أصدره المعهد البحثي للأمم المتحدة للتنمية الاجتماعية في يناير من سنة 1995,بعنوان”حالات من الفوضي:الآثار الاجتماعية للعولمة”States of Disarray: The Social effects of Globalization” ,حيث يذكر نصا:”..فالإجراءات الكاسحة لجعل السوق ليبرالية الملمح,والاقتطاعات الكبيرة في الإنفاق الحكومي علي التأمينات الاجتماعية مثلا,قد تبدو مبررة لتحقيق الفعالية الاقتصادية علي المدي القصير.بيد أنها إذا ما أدت إلي تفاقم البطالة,وتعمق الفقر,فإنها سوف تنقلب إلي إجراءات مكلفة للغاية,لا في مجال خلق الأسي والعسر للفرد فحسب,بل أيضا من جراء أثرها غير المباشر علي قضايا الصحة,والمخدرات,والجريمة,وتشغيل الأطفال والدعارة,ولن تستطيع السلطات المسئولة إغفال الصلة بين البؤس وعدم الأمان من جهة,والصراعات الاجتماعية وتزايد الحركات المتطرفة من جهة أخري..”.
كما يشير التقرير إلي أن العلاقة وثيقة بين نمط الاقتصاد الذي يتم تبنيه وبين المجتمع الذي يتم تشكيله,فعدم “إدراك تداخل تلك المسائل واعتمادها وارتباطها ببعضها البعض ـ كان أحد العوامل التي ساهمت بشكل رئيسي في إخفاق السياسات الرسمية ومنعها من تحقيق تقدم كبير في محاولاتها معالجة المشكلات الاجتماعية.وكثيرا ما يفترض أن تحرير قوي السوق,وتوفير الحوافز للمغامرة الفردية كافية لحل المشكلات الاجتماعية عن طريق تحسين الكفاءة والتنمية.ومع أن هاتين السمتين ضروريتان لتحسن الأداء الاقتصادي فإنه ليس بمقدورهما أن تكونا بديلا يُعوض عن إتباع سياسة متماسكة وفعالة..”. فالنتيجة التي أشار إليها التقرير مبكرا يوجزها فيما يلي:’بدا في برامج التصحيح التي وضعها صندوق النقد والبنك الدوليان أن للمؤسستين تصورا لبلد مثالي بالكلية…وفي معظم هذه الحالات كان التصحيح يتطلب انتهاج سياسات ضد التضخم, وخفض خدمات الرفاه العام..مما خلق صعوبة وعسرا للفقراء.لقد افترض المدافعون عن التصحيح أن هذه الانتكاسات ستكون مؤقتة ـ وأن التكلفة الاجتماعية لفترة قصيرة يمكن تعويضها بمكاسب اقتصادية طويلة الأجل.وكان ما لم يأخذوه في الحسبان أن بمقدور الضرر الاجتماعي اللاحق في تلك الحال إحباط الأهداف الاقتصادية المنشودة,إذ كان أبرز أثر لذلك هو الاضطراب الاجتماعي …كنتيجة لارتفاع أسعار الغذاء وأجور النقل…”, وما إن “ووجه الناس بالفقر, والبطالة, وتدني التوقعات ـ عمد الكثير منهم إلي نشدان السلوان في البدائل التقليدية ـ من قارئي الحظ إلي رعاة الطائفة الدينية.كذلك حصل استقطاب في مجتمعات بلدان العالم الثالث المدينة,وإلي درجة كبيرة:فقلة منهم أفادوا من فرص السوق الجديدة,أما جمهور الفقراء فقد ازدادوا فقرا.وعدم المساواة هذا جعل من العسير فعلا خلق مجتمع حسن التكامل يكون أرضية لتنمية إنسانية في المستقبل..”.
(د)
ونأتي إلي مساهمة مهمة أخري أسهمت إسهاما كبيرا في تناول عملية العولمة وتعد مرجعا في هذا المقام كتاب ‘العولمة والعالم ما بعد الكولونيالي’ Globalization And The Postcolonial World,الذي ألفه Ankie Hoogvelt أستاذ دراسات التنمية بجامعة شيفيلد والذي طبع أولا في 1997 ثم طبعة ثانية مزيدة ومنقحة في 2001 ..
يتميز الكتاب برؤية موسوعية يستهلها بنظرة تاريخية للاقتصاد السياسي الدولي,ثم الرؤي التي تتناول العلاقة بين الاقتصاد والسياسي وقد عددها كما يلي:
الرؤية ما قبل الرأسمالية أو الماركنتلية (التجارية),
الرؤية الليبرالية الكلاسيكية,
الرؤية الماركسية,
وفي إطار دراسته للعلاقة بين الدول الغنية والفقيرة في النظام العالمي تبني ما أطلق عليه ‘نظرية المراحل و البني التاريخية’..ففي كل مرحلة تاريخية وفي سياق توسع الدول الغنية من جهة, ونقل أزماتها الداخلية إلي خارجها من جهة أخري, تتكون مؤسسات وتتوزع أدوار بين دول المركز ودول الأطراف,تنتهي ـ دوما ـ بأزمات متعاقبة تتسم باللامساواة…ففي المرحلة التجارية كانت دول الأطراف المعين الأساسي للتراكم الاقتصادي في دول المركز من خلال التبادل التجاري…وفي المرحلة الاستعمارية كانت دول الأطراف المصدر الرئيسي للمواد الخام والمنهل الذي نقلت منه دول المركز الثروات الطبيعية المتنوعة…وهو ينظر للعولمة باعتبارها المرحلة مابعد الكولونيالية حيث من الضروري أن تكون دول الأطراف دولا حديثة قادرة علي استيعاب منتجات دول المركز أي أسواق.
في هذا السياق يقوم المؤلف بقراءة موسوعية لتاريخ التوسع الرأسمالي علي مدي قرنين من الزمان من 1800 إلي 2000,داعما أطروحته بالجداول التي تعبر عن التبادل التجاري بين الدول ومن خلال استخدامه للنظريات العلمية ببراعة من دون الوقوع في فخ التحيز الأيديولوجي,وفي نفس الوقت توظيفه لنظريات التحديث والتنمية والجغرافيا السياسية للتأكيد علي أفكاره في أن العولمة بصورتها المعاصرة قد أعادت تقسيم العمل الدولي جغرافيا ومناطقيا..كما تؤكد الدراسة المسحية أن عملية العولمة لا تعكس حالة توسعية بالمطلق مثل المراحل التاريخية السابقة..فالتوسع بحساب في ظل العولمة وليس من المهم إحداث الدمج الذي كان يتم في السابق لدول الأطراف إلا بالقدر الذي يخدم علي مصالح دول المركز .. وعليه لابد من البحث عمن يهيمن علي مراكز الإنتاج والبورصات والمؤسسات الدولية في شتي المجالات وخاصة الإعلامية لإدراك مسارات العولمة وآليات الهيمنة التي يمارسها المركز علي الأطراف…
العولمة عملية مركبة وأكثر تعقيدا من حصرها في جانبها الثقافي أو في بعض المزايا المرتبطة بتقنيات الاتصال وتزايد أعداد المستفيدين من ثورة المعلومات..وفي نفس الوقت من الأهمية بمكان الالتفات إلي حصاد العولمة وكيف يمكن التقدم إلي المستقبل..وإلي أفكار أخري