الدولة الحديثة تقوم على المواطنة ومحور حركتها هو المواطن. ودولتنا الحديثة عريقة، تأسست فى مطلع القرن التاسع عشر واستطاعت أن تقترب خاصة فى أوقات صعودها بدرجة أو أخرى من المواطنة. إلا أن العقود الأخيرة ولأسباب كثيرة عددناها أكثر من مرة أدت إلى ترهل الدولة ووصلنا إلى ما وصلنا إليه. جاءت 25 يناير لتجدد الدولة الحديثة: دولة المواطنة بالأساس. ولكن ما أنجزه الزخم الثورى فى هذا المقام أظنه يتعرض لتحدى العثمانية الجديدة. ما الذى نقصده بذلك؟
بداية نوضح ملامح دولة المواطنة الحديثة، التى أظنها تتسم بثلاثة ملامح. الملمح الأول هو القدرة على توفير إطار جامع للأفراد كى يعملون ويتحركون معا ليس بصفتهم الأولية ولكن بصفتهم المواطنية. بلغة أخرى يبدأ الفرد التحرك ليس بصفته منتميا لطائفة أو عزوة أو عشيرة وإنما إلى دولة ووطن. الملمح الثانى هو البدء فى تأسيس مؤسسات وطنية حديثة تستطيع أن تحقق المتطلبات النهضوية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. مؤسسات تؤسس بالمواطنين وللمواطنين. الملمح الثالث هو الاجتهاد فى تحقيق المساواة فى المواطنة على كل الأصعدة عمليا من خلال الحركية المجتمعية.
هكذا تحققت الدولة الحديثة فى صورتها الأولى من خلال حضور جامع للمصريين وبناء مؤسسى حديث بدأ بمؤسسة الجيش بعضوية مفتوحة لكل المصريين وتوالت المؤسسات بعد ذلك. وأخيرا إتاحة الملكية للمصريين فباتوا جزءا من البنية الاقتصادية الاجتماعية المصرية. سارت الدولة الحديثة مسارها ووصلت إلى ذروتها فى الفترة من 1919 إلى 1969، بيد أنها تعثرت لسبب أو لآخر إلا أنها تجددت مع الحراك الثورى فى 25 يناير.
استطاعت 25 يناير أن تستعيد المصريين من دوائر الانتماء الأولية التى تخندقوا فيها إلى المجال العام على أرضية المواطنة. كما استطاعت أن تُسقِط الحاكم، تعبيرا عن عدم رضاها عن المستوى الذى وصلت إليه أحوال مؤسسات الدولة والتأكيد على ضرورة التجديد المؤسسى. وأخيرا الإعلان الجمعى الواضح عن إخفاق السياسات الليبرالية الجديدة التى طالما فندنا آثارها المدمرة لأنها كانت تحقق مصالح الأقلية الثروية الاحتكارية على حساب الأغلبية فى إطار نظام سلطوى ريعى، ومن ثم ضرورة اتخاذ مسار آخر لدولة تنموية تقوم على اقتصاد إنتاجى يحقق العدل والرفاه للجميع.
حدث هذا فى 25 يناير وانطلقت حركة مجتمعية غير مسبوقة فى تاريخنا الحديث والمعاصر. إلا أن المتابعة المتأنية لطبيعة المعالجات التى نراها أجدها تقترب من نمط يمكن أن نطلق عليه «العثمانية الجديدة». لا نقصد هنا التعبير الذى يستخدم من قبل أوغلو حول تجديد الدور التركى فى المنطقة، وإنما أقصد به استعارة معالجات تعود للدولة العثمانية فى التعاطى مع المواطنين وهى تمثل النقيض للدولة الحديثة. كيف؟
لاحظنا فى بعض النقاشات التى تتعلق بالمبادئ الدستورية أن هناك من يتحدث عن مبادئ تخص البعض ويمكن للبعض الآخر أن يضيف مبادئ تتعلق به. وكأن الدستور يتم وضعه من خلال ترضية تتم لكل فئة أو طائفة من الناس وليس لمواطنين يعيشون معا. كما لاحظنا كيف أن هناك آلية لفصل المطالب الفئوية عن بعضها البعض، على الرغم من أهمية أن توضع المطالب الوطنية فى السياق الوطنى العام، حيث يتم النقاش مع كل فئة بمعزل عن بعضها البعض وهو تكنيك قديم استخدم فى الخمسينيات عندما تم افتراض أن كل عمال مصر لون واحد، فتم التعامل معهم عبر اتحاد عمال مصر. أو يتم التعامل مع المنتمين دينيا لدين واحد عبر الكيان الدينى. كما لاحظنا كيف أن هناك قوانين تصدر فوقيا وكأنها آتية من الباب العالى وعلى الرعايا أن يلتزموا بها دون نقاش شعبى آخذا فى الاعتبار المفردات المستخدمة فى القوانين والتى تشعرك بأنها آتية من الأضابير الغابرة.
أظن أن الحالة المتناقضة التى نشهدها والتى تحمل حالة تنتمى للدولة الحديثة ويتجلى فيها إقدام جانب من مواطنينا على الحضور والمشاركة لتعظيم ما أنجز فى 25 يناير، وفى نفس الوقت حالة أخرى تمثل تحركا على أسس ما قبل مواطنية (عثمانية): طائفية وعرقية ومناطقية وحرافيشية.. إلخ، تمثل تحدياً كبيراً يستحق منا التمسك بدولة المواطنة.