دولة المواطنة الثقافية

دولة المواطنة دولة- كما ذكرنا- تتسم بالعدالة الشاملة و بالمساواة وتكافؤ الفرص، وأيضاً اقتسام الموارد العامة للبلاد وبمنظومة حقوق متعددة. هذه السمات فسرناها على مدى أربع مقالات سابقة تشكل فيما بينها رؤية متكاملة لدولة المواطنة، فى ضوء الخبرة المصرية التاريخية وخبرات الآخرين. ومن ضمن منظومة الحقوق المتعددة، هناك الحقوق الثقافية أو المواطنة الثقافية وهو تعبير حديث ظهر فى بعض السياقات، وجدير بأن نتفحصه، وأن نجد له حضورا فى واقعنا.

(1) بداية يمكن القول أن الديمقراطية تاريخياً قامت على التعددية، من خلال حركة الناس لاكتساب الحقوق. الحركة إذن هى التى تحقق المواطنة عملياً. فالمواطنة، كما أوضحنا، لا تمنح ولا تقدم على طبق من ذهب أو فضة. المواطنة تكتسب بنضال الناس فى الواقع. وبقدر ما يتحرك الناس بقدر ما تتحقق العدالة والمساواة، وتتوافر الحقوق أى المواطنة فى المجمل. المواطنة بهذا المعنى تتجاوز حصرها فى الانتماء والهوية إلى ما هو أكثر من ذلك.

(2) أيضا لابد من التأكيد على أن المواطنة فى الخبرات التى سبقتنا قد تحققت على مراحل، حيث كانت المواطنة المدنية والسياسية فى البداية، ثم لحقت بها المواطنة الاجتماعية والاقتصادية، عندما استوجب الأمر توفير الضمانات الاجتماعية– الاقتصادية.وحدث هذا بدرجة أقل فى الخبرة المصرية. ولكن مع أواخر القرن العشرين، بدأ تنامى صعود الهويات الثقافية: الدينية والعرقية والجنسية بشكل غير مسبوق فى تاريخ البشرية. ومن ثم تم طرح مفهوم جديد هو المواطنة الثقافية Cultural Citizenship، أو المواطنة فى بعدها الثقافى، (الذى طرحه برايان ترنر Brayan S. Turner – أحد أهم من نظر للمواطنة)، وعرفها كما يلى:

«حق الخصوصيات الثقافية المتنوعة أن تمُثل فى المركب الثقافى للمجتمع، وأن تكون حاضرة فى شتى المجالات، وأن تعبر عن نفسها بتكافؤ مع الآخرين»، لكن ما الذى يترتب على هذا الحق؟

(3) ويترتب على هذا الحق أن كل مكون من مكونات الجماعة الوطنية فى مجتمع بعينه من حقه أن يكون معروفا بدقة من قبل الآخر، وأن كل مكون من حقه أن يعبر عن نفسه، دون خوف فى المجال العام، مما يدعم العملية الديمقراطية، شريطة التأكيد على المساواة بين كل المكونات، بغض النظر عن الوزن النسبى لكل مكون، ومن ثم تتحقق المواطنة الثقافية، والتى نوجز عناصرها فيما يلى:

■ تمثيل الهويات الثقافية الخاصة فى المركب الثقافى العام بالتساوى.

■ إدراج التاريخ الثقافى للخصوصيات المتنوعة ضمن الذاكرة القومية.

■ حرية التعبير الكاملة للخصوصيات، وإبراز المنظومة الرمزية الخاصة بكل خصوصية بصورة يألفها الجميع.

(4) بهذا المعنى تُحقق المواطنة الثقافية المساواة بين الجميع، بالرغم من الاختلاف الثقافى: الدينى أو العرقى أو اللغوى.. إلخ. وفى الوقت نفسه تدعم فكرة الدولة / المجتمع: المركب الثقافى متعدد العناصر.أو ديمقراطية الحضور الثقافى للجميع إن جاز التعبير. من جانب آخر تعصم الدولة/ المجتمع من الوقوع فى الثنائيات، بسبب الرؤية الأحادية الثقافية، التى نشهدها فى الآونة الأخيرة من عينة:

■ الشريعة أم الديمقراطية؟

■ المواطنة أم الذمية؟

■ دينية أم مدنية؟

(5) إن شعور أحد أطراف العملية الديمقراطية بأنه وحده يملك الحقيقة المطلقة، وأن باقى الأطراف عليهم التحرك تحت سقف أطروحات مطلقة وغير قابلة للنقد،وهو ما يعنى إضفاء «المقدس» على المجال العام،إنما يعد أمراً خطيراً، لأن المجال العام الذى يلتقى فيه كل أطراف العملية الديمقراطية هو نسبى، حيث من المفترض أن يجتهد كل طرف فى وضع أفضل ما لديه من تصورات وبرامج، التى بطبيعتها نسبية وقابلة للنقاش والأخذ والرد.

الخلاصة، على الفاعلين الأساسيين فى العملية الديمقراطية القبول بالتعددية، وبأن هناك آخر قد تكون له رؤية مغايرة، تعددية على قاعدة المساواة، بغض النظر عن الأوزان النسبية للأطراف، وألا يصادر رأى، لأنه يأتى فى نظر أحد الأطراف من طرف أدنى أومن أقلية أو من طرف لديه مرجعية مغايرة، هنا تتحقق المواطنة الثقافية، التى هى عنصر أساسى من حزمة أبعاد المواطنة التى علينا أن نحققها، ككل متكامل، وفى وقت واحد.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern