دولة المواطنة: الثقة بالإمكانات غير العادية لكل مواطن

انتهى زمن الحديث باسم الناس، وانتهى أيضا الوقت الذى يفوض فيه الناس البعض للحديث عنهم كممثلين سياسيين. انتهى زمن الوصاية التى تفرضها السلطة بأشكالها التقليدية التى تعطى نفسها الحق أن تتكلم عن الناس باعتبارهم رعايا لا مواطنين دون الرجوع لهم. بلغة أخرى: انقضى وقت التوكيل المطلق على بياض الذى كانت تفترض السلطة – أى سلطة – بأنه معطى إلى ما شاء الله.

إنه زمن تأسيس دولة المواطنة التى تقوم على «الديمقراطية القوية» التى عمادها أن لكل مواطن إمكانيات قوية، مهما كان عاديا فى البنية المجتمعية، تمكنه من فعل الكثير.

(1) الديمقراطية القوية تعبير وضعه بنجامين بربار، أستاذ علم الاجتماع الامريكى مؤلف الكتاب المرجعى الشهير «الجهاد فى مواجهة عالم ماك» وأذكر أننى عرفت القارئ به مبكرا فى نفس هذا المكان، من خلال كتاب حمل نفس الاسم صدر عام 1984، توقع فيه أن تتجه الديمقراطية رويدا رويدا من الديمقراطية التمثيلية حيث ينتخب المواطنون من ينوب عنهم فى البرلمان للدفاع عن مصالحهم إلى ما وصفه بـ«الديمقراطية بالمشاركة». حيث سيكون لكل مواطن «دوره الفاعل» مهما كان وضعه فى البنية المجتمعية: «الوزير مثل الغفير».

(2) هذا الحضور الفاعل للمواطنين سنجده فى كل مراحل العملية السياسية موجودا. ففى الماضى، كان المرء يُستدعى لكى يقوم بانتخاب مرشحيه من واقع أنه «زبون» يتلقى الخدمات وعليه أن يدفع ثمن ما يحصل عليه من سلع. فالهدف الأسمى للمرشحين فى هذه الحالة هو أن يجتهدوا فى «ملء بطون» هؤلاء الزبائن. ويصبح الأمر أقرب إلى «كسر عين» الناخب/الزبون، وعليه تنتفى وتمتنع أى محاسبة أو مساءلة يمكن أن يمارسها المرء لأنه زبون وليس مواطناً، ولا يقتصر الأمر على ذلك وإنما تجد هؤلاء المرشحين وممثلى السلطة التقليدية لديهم صورة استعلائية على هؤلاء فهم بالنسبة لهم رعايا لا يعرفون شيئا لذا فهم فى حاجة إلى من يدبر لهم شؤونهم. وأنهم أدنى من أن يمارسوا الديمقراطية، وعليه فهم فى حاجة إلى وصاية من سلطة تنوب عن هؤلاء غير الراشدين فى كل شىء. الأكثر من هذا تجد هذه السلطة وهى تسوق لخطورة أن يعرف هؤلاء أياً من أسرار السلطة، فهم أدنى من ذلك ولأن حراس المعبد هم وحدهم المؤهلون لإدراك أسرار السلطة.

(3) لم يدرك حراس المعبد أن الزمن يمر، وأن الدنيا تتغير والدنيا لم تعد هى الدنيا، وأن السياق الذى وضعوا فيه تقاليدهم التليدة قد بات بالياً. المرء اليوم ولاعتبارات كثيرة أبسطها هو عامل البيولوجيا الذى طالما لفتنا النظر إليه، وأقصد به هو أن يتحول مجتمع بأكمله إلى كتلة بيولوجية شابة تصل إلى 80% من إجمالى السكان يحملون رؤى مغايرة وأفكاراً عن الذات والمجتمع والعالم مختلفة جذرياً عن حراس المعبد أو لنقل الكهف. فجأة وجدنا بشرا يمارسون المواطنة: ربما بالفطرة، وربما بفعل الإعلام، وربما بفعل التعليم المتميز، أو كل ذلك معا.. يريدون أن تكون:

■ «رجلهم على رجل» – كما يقولون – السلطة التى لا تثق فيهم أو فى أحسن الأحوال تعمل على توظيفهم، وكتفهم بكتف ممثلى السلطة فى كل تفصيلة لأنها تخصهم وتخص مستقبل الأجيال القادمة، وسوف نجد كيف بات هؤلاء مواطنين بحق.. أظنهم لن يحتاجوا منا ككتاب لنصح أو تعبئة بقدر ما يحتاجون إلى رصد وتحليل ما يجرى.

(4) إن الديمقراطية السلطوية، والديمقراطية القانونية، والديمقراطية التعددية، وكلها تصنف باعتبارها ديمقراطية تمثيلية، لا ترقى لأن تكون ديمقراطية قوية حيث إن قوة الديمقراطية تعنى مشاركة الناس فى كل صغيرة وكبيرة فى أمور الحياة اليومية، أو بتعبير أدق:

■ «إنها الحكم الذاتى للمواطنين، وليس الحكم باسمهم أو تمثيلهم».

أظن أن هذا ما جسده «التحرير» ولايزال. الذى فك الرهن المطلق للناس بالسلطة، كل أنواع السلطات، وحررهم من كل التبعيات والمرجعيات التقليدية. ولنشاهد ونتابع تعليقات الناس خاصة هؤلاء الذين لم تتح لهم فرصة التعليم وكيف يتحدثون وكيف يقدمون البراهين حول الموقف السياسى… إلخ.

■ إنها دولة المواطنة التى تؤمن بأن لدى الناس العاديين إمكانيات تؤهلهم لممارسة ديمقراطية قوية وحقيقية.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern