ستينية ثورة يوليو...3: «الدولة» و«الدولة المضادة»

فى مقالنا الأول بمناسبة الذكرى الستين لثورة يوليو، تحدثنا عن يوليو «الثورة» وما أنجزته لمصر والمنطقة. ففى غضون أيام من قيامها، استطاعت يوليو «الثورة» أن تتخلص من الحاكم ويبدأ فى مصر حكم مصرى خالص، وخلال شهور أصدرت قوانين فى صالح الشرائح الاجتماعية الدنيا والوسطى، وبعد ما يقرب من عامين تحقق الاستقلال الوطنى لمصر. الأهم كما أوضحنا فى مقالنا السابق هو الانطلاق الثورى نحو إحداث تحولات راديكالية فى مصر مست كل الأبنية على رأسها ما وصفه أنور عبدالملك «تفكيك البرجوازية القديمة»

واتاحة الفرصة أمام الطبقة الوسطى الصاعدة من أبناء الوطن على اختلافهم أن يكون لهم نصيب فى السلطة الجديدة. إلا أن هذا لم يكن ليحدث دون تحقيق إنجازات ملموسة فى المجال الاقتصادى تكون طبيعته انتاجية.. هذا هو نتاج يوليو «الثورة» فى حقبتها الأولى.. وكان من الطبيعى للثورة أن «تتمأسس»، ذلك بأن تؤسس دولتها، فتنتقل يوليو من الثورة إلى الدولة…فى هذا السياق يمكن القول أن يوليو «الثورة» أسست دولة أولى فى الحقبة الناصرية ثم دولة مضادة للأولى هى دولة السادات ومبارك التى تعد امتدادا لها…ما طبيعة كل مرحلة؟ وما تداعيات كل على مختلف الأصعدة.

دولة يوليو: رأسمالية دولة

لقد كانت التحولات الراديكالية الجارية فى مصر، والتى أطلقتها يوليو « الثورة»، تمتد إلى عمق البنى الاجتماعية من خلال إحداث تغييرات جذرية اقتصادية ومالية مركبة رافقها تغييرات تشريعية وقانونية ومؤسسية تتناسب مع التحول الاقتصادى، تحول اقتصادى رفع شعارات من عينة ما يلى:

ــ جعل مصر مصنع العالم العربى،

ــ وأكبر قاعدة صناعية فى أفريقيا،

ــ والقوة الاقتصادية الأولى فى الشرق الأوسط.

نجحت الثورة فى انطلاقها الاقتصادى من خلال مشروعات كبرى على رأسها السد العالى وتأسيس قاعدة صناعية ضخمة وغير مسبوقة. كان هذا التوسع الكبير فى حاجة إلى تأسيس دولة من نوع جديد. فهناك فرق بين دولة تكون طبقتها الأساسية من كبار ملاك الأرض، وأن يكون الاقتصاد ــ بالأساس ــ قائما على الزراعة، وبين اقتصاد انتاجى صناعى جديد موجه لعموم المصريين.

ويشار هنا أن يوليو «الثورة» كانت تأمل أن تستجيب الرأسمالية القديمة للواقع الجديد وأن تشارك فى التنمية بحسب الرؤى الجديدة، والأكيد فى هذا السياق أن كثيرا من التشريعات والقرارات الاقتصادية كانت فى صالح الرأسمالية. بيد أن هذه الرأسمالية لم تستجب. ومع إحجام هذه الطبقة القديمة عن التعاون مع الثورة، وبقيت بمفكريها الاقتصاديين وبإطاراتها الإدارية الكبيرة والمتوسطة، وبرأسمالها الهائل و… قوة مستقلة غير منخرطة فى البنية الاقتصادية الجديدة، صدرت مجموعة من «المراسيم الاشتراعية والقرارات الجمهورية التى ستبدل بشكل أساسى توازن القوى الاجتماعية القائم. ويمكن تصنيف هذه المراسيم والقرارات إلى ثلاث مجموعات نوعية من القوانين وذلك كما يلى:

1 ــ قوانين متعلقة بإعادة توزيع الدخل القومى.

2 ــ قوانين تؤمن هيمنة القطاع العام على المشاريع الخاصة والمؤسسات الاحتكارية.

3 ــ قوانين متتالية للإصلاح الزراعى ثم التأميم.

فى هذا السياق تبلورت دولة يوليو «كرأسمالية دولة» تعتمد على البيروقراطية / التسلطية بحسب ووتر برى وآخرين، وهو الوصف الذى تبناه الكثيرون لاحقا. من هنا كان دور الدولة يتنامى فى السيطرة على الحياة الاقتصادية من خلال:

1 ــ توسيع عمل ما عرف آنذاك بالمؤسسة الاقتصادية ومبادرات الدولة فى الحقل الاقتصادى.

2 ــ إصدار شبكة من القوانين تؤمن إشراف الدولة على الصناعة وعلى الشركات المساهمة.

3 ــ تأسيس مشروع السنوات الخمس (الخطة الخمسية الشهيرة (1960 ــ 1965).

وتكونت هذه الدولة ــ بالأساس ــ من العناصر العسكرية والتكنوقراط (الفنيون المتخصصون فى مجالات بعينها)، والتى مع مرور الوقت يبدو أنها بدلا من أن تتمم ما بداته يوليو الثورة من أجل جموع المصريين نجدها تدافع عن مصالحها وما حققته دون اعتبار للأغلبية.

ولتقريب الفكرة سوف نجد كيف أن الشرائح الوسطى التى حظيت بمزايا من يوليو الثورة مثل مجانية التعليم وفرصة مساوية فى التعيينات هى نفسها التى سعت الى التضييق على الصاعدين الجدد والذين يسعون على التمتع بنفس المزايا، ذلك حفاظا على مصالحها ومكاسبها. وبدلا من أن يكون التكنوقراط هم قادة التحديث التقنى والاجتماعى فإنهم عملوا على إعادة الطابع التقليدى والرأسمالى التجارى لاحقا إلى المجتمع. ويقول العالم الكبير الراحل نزيه نصيف الأيوبى كيف أن هذه النخبة لم تسع إلى الاهتمام بأى تطور فى المجال الديمقراطى، كما أعاقت التطور الصناعى من خلال شبكة المصالح التى والتهم عمليا أكثر من مصالح الفئات الشعبية وهكذا اتجه المجتمع عكس توجهه. فبدلا من بلوغ مجتمع الكفاية والعدل تعزز التمايز الاجتماعى وسلكت نخبة الثورة سلوك القطاع البرجوازى التقليدى الذى قامت الثورة ضده.

الخلاصة أن الدولة التى تأسست فى الحقبة الناصرية حققت الكثير من مطالب يوليو « الثورة» التنموية، وحاولت أن تكون دولة إنتاج وتوزيع، بحسب مارك كوبر، وتكمن الإشكالية هنا بحسب «هينيبوش» بأن الدولة التى تشكلت عقب المرحلة الثورية قد سارت فى اتجاه التغيير من أعلى إلا أنها لم تستطع أن تسير إلى النهاية فى هذا الخيار، والنتيجة أن بدأت الدولة فى الانسحاب من الانتاج والتوزيع ما يعنى إحياء الرأسمالية الخاصة، وهو ما يسر تأسيس الدولة المضادة بداية من السادات. وعليه عدم بقاء الدولة الصلبة على ما هى عليه بحسب رايموند هينيبوش.

دولة يوليو المضادة: دولة التناقضات

مع حكم السادات لمصر، أجرى تحولا نوعيا فى تركيبة الدولة المصرية جمعت بين تناقضات عدة. حيث أبقى على رأسمالية الدولة وفى نفس الوقت أطلق لها الشراكة الاقتصادية مع الشركات والمؤسسات العابرة للحدود. كذلك أبقى على حضور التكنوقراط والعسكر بشراكة مع أغنياء الريف والمقاولين وأصحاب الملكيات العقارية.ويبدو الأمر أن هناك توسيعا للقاعدة الاجتماعية للدولة إلا أن الأمر فى الواقع العملى قد أثبت ان هذا التوسع قد أدى إلى تمركز الثروة العامة للبلاد فى أيدى القلة التى نصفها دائما بالقلة الثروية. وفى هذا السياق تمت المصالحة التاريخية مع التيار الديني. ويبدو أن الدولة الجديدة قد قبلت بتقاسم المسؤولية فيما يتعلق بالناس فتولى التيار الدينى خدمة الشرائح الاجتماعية الوسطى الدنيا والدنيا على أن تتولى الدولة التخديم على العناصر الدولة الجديدة. وهو ما استمر بكثافة فى زمن مبارك يضاف إليه القبول بدور للتدفق المالى المدنى لتعويض انسحاب الدولة من الخدمات العامة.

ويشار هنا أن دستور 1971 وهو ما نصفه بدستور ولى الأمر (راجع دراستنا الأقباط والشريعة بين دستورى الحركة الوطنية 1923 وولى الأمر 1971)، قد وضع العديد من البنود التى تصب فى اتجاه الاشتراكية (راجع البنود: 3 حول تحالف قوى الشعب ودور الاتحاد الاشتراكى، 9 الأساس الاقتصادى للدولة هو النظام الاشتراكى، 12 يسيطر الشعب على كل أدوات النتاج.. إلخ). وفى ظل هذا الدستور تم تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي. نفس ما جرى فى بداية حكم مبارك عندما عقد المؤتمر الاقتصادى (فبراير 1982) وبالرغم من مقرراته المهمة إلا أن الدولة سارت فى اتجاه آخر.

المحصلة وبحسب دراسات معتبرة لفؤاد مرسى وجودة عبد الخالق وعادل حسين وابراهيم العيسوى وعادل غنيم وغالى شكرى،…الخ، تشير إلى أن الدولة باتت تلعب دورا متناقضا بسبب التناقضات بين العناصر المكونة للحكم من جهة، وتعارض المصالح بين الرأسمالية التجارية والمالية وبين الطبقات الاجتماعية الوسطى والدنيا.

المحصلة أن ثورة يوليو 1952 بعد أن شهدت تجلياتها الثورية والدولتية الناصرية والساداتية / المباركية المضادة كان لابد لها من أن ترى تجليا آخر وهو ما أدى إلى الجمهورية الثانية إذا ما اعتبرنا ما سبق ينتسب إلى الجمهورية الأولى.. ذلك كله بفعل الحراك الثورى الذى انطلق فى 25 يناير…وهو ما نتحدث عنه فى مقالنا القادم.. وهل الجمهورية الثانية ستكون تجليا جديدا لثورة يوليو دينى الطابع أم انقطاع نحو أفق جديد.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern