ستينية ثورة يوليو...4: الجمهورية الثانية: إلى أين؟

عرضنا على مدى حلقتين مسيرة ثورة يوليو بتجلياتها المتنوعة. وقد ميزنا بين أمرين هما: يوليو «الثورة»، ويوليو الدولة. يوليو «الثورة» التى حققت فى وقت قليل الاستقلال الوطنى وقدرا من العدالة الاجتماعية، وتنمية اقتصادية معتبرة من خلال قاعدة صناعية ضخمة. وكان لابد للثورة أن تؤسس دولتها ومؤسساتها فرصدنا دولة أولى فى المرحلة الناصرية اتسم الحكم فيها بأنه كان يعبر عن تحالف بين العسكر والخبراء والمثقفين والموظفين ينتمون إلى الطبقة الوسطى فى المجمل مارست رأسمالية الدولة فى تأمين مجتمع الكفاية والعدل. ومع هزيمة 1967 ورحيل الزعيم الكاريزما، كون السادات دولة أخرى مضادة لدولة ناصر استمرت فى الفترة المباركية.

طغمة حاكمة مغايرة اتسمت بالتناقضات، حيث جمعت بين المقاولين وأغنياء الريف والسماسرة والوكلاء..إلخ، لها طبيعة احتكارية. وانحل التحالف الداعم للطبقة الوسطى الذى كان يميز دولة يوليو الناصرية. والنتيجة أنها تفتت وتشرذمت ما بين العزلة والهجرة وأخيرا التخديم على القلة الثروية الحاكمة الجديدة. ويمكن هذه المراحل: يوليو الثورة، ويوليو الدولة الناصرية، ويوليو الدولة المضادة الساداتية ــ المباركية، بأنها مراحل تقع تحت مظلة الجمهورية الأولى. ذلك لأن هناك جمهورية ثانية تشكلت مع أول مدنى ينتخب منذ 1952 وهنا نطرح سؤالنا الرئيسى: هل الجمهورية الثانية تعد امتدادا ليوليو أم انقطاعا عنها؟ أم أن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك؟

تاريخ الشعوب هو حصيلة تراكم

بداية نحن ننطلق من قناعة تقول بأنه لا ينبغى التعامل مع لحظات النهوض الوطنى «بالقطعة»، أو باعتبارها لحظات منبتة الصلة ببعضها البعض. ذلك لأن المنطقى أن يكون هناك تراكم بينها. ولنأخذ مثلا طريقة تعاملنا مع ثورتى 1919 و1952، سوف نجد كيف تعتبرهما الدراسات التحليلية ثورتين منفصلتين عن بعضهما البعض وليس حلقتين من حلقات النضال الوطنى. كل حلقة انجزت وأخفقت. ومن هنا ألا يمكن اعتبار الفترة من 1919 إلى 1969 مرحلة ممتدة من النهوض الوطنى. نهوض بتجليين هما: التجلى المدنى ــ والسياسى الذى انطلق مع ثورة 1919، ونهوض اقتصادى ــ اجتماعى أطلقته ثورة 1952.

فالطبقة الوسطى التى ولدت من رحم الدولة الحديثة، والتعليم الذى كان سلاحها الأساسى، استطاعت من خلال التصالح بين القديم والجديد بواسطة عملية مركبة من التحديث والحداثة أن تنتج لمصر والمصريين تأسيس مدارس قومية فى الطب والهندسة والفلسفة والأدب والتاريخ…الخ. وامتد ذلك حتى إلى الخطاب الدينى لذا كان من الطبيعى أن نرى خطابا دينيا ليبراليا فى الفترة الأولى من فترة النهوض الوطنى، حيث عنى بعد ذلك فى الفترة الثانية بالقضايا المجتمعية المهمة وليس السطحية مثل: الفقر والعدالة الاجتماعية والتنمية. وتطور هذا الخطاب فى الفترة الثانية وانطلاق اقتصاد وطنى مستقل يحاول التحرر من التبعية والحصار.

فى نفس هذا السياق ليس من المستغرب أن نجد كل المبدعين الذين ولدوا مع ثورة 1919 مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومحمود مختار ورمسيس يونان وطه حسين ووليم سليم ومحمد شفيق غربال والشيخ محمد رفعت والمعلم ميخائيل المرتل وأبوبكر خيرت ومختار التتش وبيرم التونسى ومحمد عبدالوهاب ونبوية موسى والشيخ محمد أبوزهرة ومحمود شلتوت وعزيز سوريال عطية..إلخ، وقد استمروا يبدعون جنبا إلى جنب مع مبدعى ثورة يوليو بما أتوا به من مدارس حديثة وآفاق جديدة مثل: خالد محمد خالد ويوسف إدريس وعبدالحليم حافظ وزكريا إبراهيم وزكى نجيب محفوظ والفريد فرج وصلاح جاهين وسيد مكاوى وصلاح عبدالصبور وصلاح أبوسيف والقصاص وجمال حمدان ولطيفة الزيات وسهير القلماوى..إلخ.

إذن التراكم الذى يتسم بالطابع النهضوى هو المعيار لدينا فى مدى الامتداد أم الانقطاع، آخذا فى الاعتبار سلبيات كل مرحلة وتعثراتها وأخطاءها.. فى هذا المقام كيف ننظر للحظة الراهنة..

فى ضرورة التواصل مع مشروع التقدم المصرى

مما سبق، أرى أن يوليو «الثورة» ــ ويوليو «دولة ناصر» بالنسبة لى هى امتداد بالرغم من كل التناقضات لثورة 1919 بمنطق التراكم. بينما دولة يوليو المضادة بتجلياتها تمثل انقطاعا جديا عن يوليو «الثورة» ــ يوليو دولة ناصر. فمنذ غير السادات (كما شرحنا فى مقالنا السابق التى وصفناها بدولة التناقضات) فى تركيبة السلطة الحاكمة وأخل بدعمه للطبقة الوسطى التى كانت حاضرة بقوة فى ثورتى 1919 و1952. لقد أسس السادات دولة مضادة جوهريا فى 1971. صحيح قام بوضع دستور جديد أطلقنا عليه دستور ولى الأمر ــ أفندينا سلطوى فى جوهره فيما يخص الحاكم وموظفا فيه الدين من أجل ذلك مع نصوص اشتراكية تغطى على الانحراف الجذرى عما سبق. وتمثل ذلك فى مجموعة من القوانين تتناقض مع الدستور كليا وذلك كما يلى:

ــ قانون استثمار المال العربى والأجنبى والمناطق الحرة (القانون رقم 43 لسنة 1974 معدلا بالقانون 32 لسنة 1977)،

ــ قانون النقد الأجنبى (القانون رقم 97 لسنة 1976)،

ــ قانون التصدير والاستيراد، ونظام الاستيراد بدون تحويل عملة.

كانت كل هذه القوانين وما تلاها من قوانين وتشريعات من عينة قانون الضرائب العقارية الأشهر قد صبت فى صالح القلة وهو ما وضح تماما فى الفترة المباركية بالرغم من معدلات النمو العالية نسبيا فإنها فى الواقع لم تكن توزع بشكل عادل. لذا كان النمو والاستثمار يرافقه الافقار (كما كتبنا مرة فى 2008).

وإبان هذه الفترة كان يستدعى ناصر وأغانى حليم فى أوقات معينة، كما لا يمكن إنكار أن دولة يوليو المضادة قد استخدمت نفس المنهج والآليات التى استها دولة يوليو الناصرية فى إدارة كثير من الملفات.

المحصلة المنطقية لعقود من التدهور والتراجع أن تحركت الطبقة الوسطى فى 25 يناير وعكست شعاراتها أنه لم يكن مقبولا الاستمرار إلا بالتكامل بين الحرية السياسية والمدنية كما أطلقتها ثورة 1919 والعدالة الاجتماعية بحسب يوليو. إذن الموضوع ليس هو انتماء السادات إلى الضباط الأحرار يعنى استمرارية يوليو. بيد أن يوليو تظل حية كخبرة مجتمعية ونضالية فى حياة مواطنينا. كذلك مدنية الحاكم لا تعنى بالضرورة الانقطاع عما سبق.

وهنا التحدى الحقيقى أمام الإدارة الجديدة فى أن تنجز ــ بحسب الدماء التى أريقت فى 25 يناير وما بعدها ـ مشروع التقدم ببعديه: العدالة الاجتماعية والحرية السياسية ــ المدنية، والتراكم على ما سبق ومن ثم يكون الامتداد هنا امتدادا لمشروع النهوض المصرى الذى عرفته مصر الحديثة الذى لم يكن فى خصومة مع الدين، أو تكون الجمهورية الثانية امتدادا لما سبق من حيث الرؤية الاقتصادية والسياسات الاجتماعية المؤطرة دينيا.. هذا هو التحدى.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern