دستوريات (5) : «الدستور الحركة» و«الدستور النص»

السؤال الجوهرى الذى كان دائم الطرح من قبل المفكرين الدستوريين وعلماء السياسة هو: متى يكون الدستور معبراً عن الناس؟ وكيف يكون الدستور مواكبا الجديد فى المجتمع؟ وهل أى نص دستورى يؤدى الغرض؟ خلص الدستوريون، فى ضوء هذه النوعية من التساؤلات من جهة، والخبرة على أرض الواقع فى كثير من الدول من جهة أخرى، إلى أن هناك فرقاً بين ما يسمى «الدستور القانون» و«الدستور البرنامج» (راجع موريس دوفرجيه – مطلع الثمانينيات).

(1) بالنسبة للدستور القانون فيقصد به جملة أمور، من ضمنها أنه نتاج حركة دستورية نضالية للمواطنين من أجل جعل حقوقهم حقيقة، وكيف يمكن تدوين ذلك فيما بينهم، وتصور مستقبلهم فى الوطن الذى يجمعهم وفق ما تم إنجازه: المساواة، إسقاط حاكم، تطور اقتصادى.. إلخ.

فى الدول التى يختبر مواطنوها الحركة الدستورية يكون من السهل عليها تأسيس قانون دستورى ذى تقاليد محترمة فى سياق بناء قانونى حداثى يتناسب مع التطور الذى لحق بالمجتمع بسبب ما جرى فيه من تغييرات وأحد المحددات الضامنة لتحقيق الدستور القانون هو أن هذا يحدث فى سياق تطورت تطال كل الأبنية فى المجتمع: المعرفية والثقافية والإبداعية والسياسية والاقتصادية…إلخ. الحالة الدستورية تكون فى أعلى درجاتها،

 بحسب درجة التطور الاجتماعى، شأنها شأن السياق الذى تعبر عنه وتتحرك فى إطاره. لذا الدستور المنتج يمكن أن نطلق عليه دستور الحركة / الشراكة الوطنية حيث يشارك فيه الجميع من سياسيين وخبراء وعمال وفلاحين وكل أنواع الأغلبيات والأقليات، بغض النظر عن الأوزان النسبية ويكون دور فقهاء الدستور مهنياً محضاً دون أن يترك لهم وحدهم.(نشير إلى مقالنا الثانى فى هذه السلسلة المعنون «أنواع الدساتير» وقد حددناها بما يلى: دستور «الحركة الوطنية/ المواطنة» ودستور «ولى الأمر» ودستور «الغلبة»).

(2) أما الدستور البرنامج فهو دستور «سابق التجهيز»، أو «ألا كارت» حيث يتم تجهيزه «تفصيله» بحسب رغبة ولى الأمر، أو أصحاب «الغلبة». وفى هذا النوع من الدساتير يمكن أن يطلب ولى الأمر من المهنيين الدستوريين أن يأتوه بأفضل ما فى دساتير الدول المتقدمة، على الرغم من أن الدولة لم تزل تسلطية والحكم مستبداً،

 لذا هى دساتير تكون على أعلى درجة من الصياغة، ولكنها نصوص هشة غير متسقة مع التطور المجتمعى ولا تعبر عنه، فالمرجعية عُرفية بعد. ولم يختبر المواطنون أى حراك من أجل التغيير. وهناك فجوة كبيرة بين النص والتطبيق. تجد نصوصا عن الديمقراطية ولم يزل الحكم عائلياً أو قبلياً أو… إلخ. وهنا يمكن أن نراجع كثيراً من دول أفريقيا التى سارت فى هذا المسار. أو كثيراً من دول الجوار حيث كانت تستدعى خبراءنا لكتابة دساتيرها.

(3) فى ضوء ما سبق، وصل المنظرون الدستوريون فى كثير من المراجع المعتبرة إلى أهمية التمييز بين الدساتير «المحافظة والجامدة» والأخرى «المرنة والحية». أو ما يمكن أن نطلق عليه الدستور «الحركة» والدستور «النص». «الدستور الحركة» تأتى نصوصه حية ومرنة لأنها تعبر عن تقدم وعن احتياج فى الاقتصاد وفى الصناعة والزراعة، وكل ما جد على المواطنين بسبب تطور المجتمع. أما «الدستور النص» فهو دستور جاهز فى الأدراج أو يتم استعارته من هنا أو هناك، وفق خبرات الآخرين أو استدعائه من التاريخ أو أن نفوض بعض الخبراء بإعداده خلال فترة زمنية دون نقاش حى بين مكونات الوطن.

فهو بالأخير مجرد نص غير مرتبط بواقع أو يكاد يلتقى مع الواقع فى جانب من جوانبه. كما يمكن أن تحل النصوص، ذات الطابع الإنشائى «الأخلاقى» الأمر (على طريقة الوصايا التى كانت تكتب على ظهر الكراريس فى الماضى).

الدستور أعقد من ذلك بكثير، وبخاصة الدستور الحركة: حيث الحديث عن الحقوق الجديدة وعن النموذج التنموى الذى نريده وموازين القوة فى المجتمع: الاقتصادية وغيرها. كما أن الأمر يحتاج نقاشات معمقة حول كثير من القضايا.. نقاشات جدية وحرة، وهذا ما سنتحدث عنه فى مقالنا القادم.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern