«محنة الدستور» عنوان كتاب قديم للكاتب المعتبر محمد زكى عبدالقادر، وجدته حاضراً فى ذهنى بقوة، وأنا أجد أنه كلما اقتربنا من الدستور بصورة أو بأخرى زاد انقسامنا وبعدت المسافة بين القوى الوطنية، وهو ما حذرنا منه مراراً انطلاقاً من أن جوهر العملية الدستورية، كما أشرنا فى مقالنا الأول فى هذه السلسلة، هو تعبير عن توافق المواطنين كل المواطنين – دون تمييز – على أن يعبروا معاً عما أنجزوه على أرض الواقع من تغيير – معاً – فى لحظة ثورية من جهة، وعن أى مصر جديدة يريدون من جهة أخرى.
(1)
نعم بات حديث الدستور إنما يعنى «محنة» للحركة الوطنية المصرية. البداية كانت مع استفتاء 19 مارس 2011، الذى قوض «الحراك» الوطنى الواسع، الذى شهده المصريون إلى «عراك» طائفى دينى وسياسى، وبدلاً من أن نترجم حالة الفعل الثورى، التى شارك فيها الجميع، إلى نص دستورى كان الإصرار على عمل الانتخابات، والتى قطعاً سوف يكون فيها منتصر وخاسر، وخطورة إعداد دستور فى ظل غالب ومغلوب أن هذا ينتقص من شرعية عمل الدستور، لأن منطق «الغلبة» سوف يكون هو السائد بوعى أو بغير وعى، وقلنا منذ عام فى نفس هذا المكان إن دولة المواطنة لا تبنى «بالغلبة»، وتمنيت آنذاك أن نعد الدستور ونتوافق أولاً وفق روحية 25 يناير قبل الانتخابات ولتأتى الانتخابات بمن تشاء، وزادت النقاشات من تباعد القوى الوطنية تارة تحت مسمى صراع الليبراليين والإسلاميين، وتارة أخرى تحت مسمى الدينيين والمدنيين.. إلخ. وأجريت الانتخابات وكررنا تخوفنا وكتبنا مقالاً فى «الأهرام» عنوانه «مصر الجديدة بين دستورى المواطنة والغلبة»، ما إن تمت الانتخابات تمنيت مرة أخرى أن يكون أعضاء اللجنة التأسيسية من خارج البرلمان أو بالكثير تكون النسبة الأقل من أعضاء البرلمان، وحدث ما حدث وبدأت الاستقالات والمقاطعات للجنة التأسيسية وانطلقت سجالات حادة خلال الساعات الأخيرة كلها تجسد «محنة الدستور» التى لم تبدأ الآن ولكن منذ مارس 2011.
(2)
هناك ملاحظات جدية لا يمكن إهمالها من قبل الفريق المنسحب من اللجنة المدعوم من كثير من القوى الفلاحية والعمالية والنقابية والشبابية بشكل خاص والسياسية بشكل عام، وهناك محاولة من قبل الأغلبية للترضية فى تشكيل اللجنة التأسيسية إلا أن النتيجة لم تأت بالمأمول، وزاد الاحتقان بين القوى المختلفة.
(3)
إن قدراً من الخيال السياسى المنطلق من «الإيثار» لا «الاستئثار» كان يمكن له أن يحل الكثير من الإشكاليات التى أوصلتنا إليها خارطة الطريق التى بدلاً من أن تتجه بنا إلى التوافق والتعبير عن روحية 25 يناير باعدت بين المصريين، كان يمكن أن تتكون اللجنة التأسيسية من أقلية من كبار البرلمانيين قدامى وحاليين ومن أغلبية من رموز الوطن الذين لا خلاف عليهم تجمع بين الكبار بإنجازاتهم وكفاءتهم والشباب بنضالاتهم الثورية مثل: حامد عمار، رشدى سعيد، أنور عبدالملك، جمال البنا، أحمد كمال أبوالمجد، مارى أسعد، محمد غنيم، إسحق عبيد، والحاصلين على نوبل، حسن شافعى، وأحمد حرارة وعلاء عبدالفتاح، إبراهيم الهضيبى، على أن تحاط هذه اللجنة بمجموعة من لجان العمل التى تعد الأوراق وتأخذ فى الاعتبار كل الجهود الدستورية المعتبرة التى أنجزت فى العام المنصرم وأشرنا إلى بعضها فى مقالنا السابق. من هذه اللجان: لجنة المواطنة، لجنة النموذج التنموى لمصر، لجنة الحريات والإبداع، لجنة الثقافة، لجنة المحليات، لجنة الصناعة، وأخيراً لجنة الصياغة.
ربما كانت هذه الفكرة تستوعب الكثيرين من أصحاب الكفاءات وتوسع قاعدة التمثيل وتجدد – بعض الشىء – حالة التوافق. لقد اهتممنا بالجانب الشكلى الإجرائى فى سرعة تنفيذ خارطة الطريق وبدت تحركات الغالب تميل نحو الاستئثار أكثر من الإيثار.
وهى حالة يصعب معها التوافق حول دستور يعكس أمانى المصريين وتطلعاتهم لمصر جديدة.