«.. بالرغم من الدور التكوينى الذى لعبته النخب، والدساتير والقوانين فإن الثقافة الدستورية والقانونية عموما، عانت العديد من الأزمات الممتدة…».
(1)
بهذه الكلمات يستهل مفكرنا وكاتبنا الكبير نبيل عبدالفتاح دراسته المعتبرة المعنونة «الانتفاضة الثورية وأزمة الثقافة الدستورية فى مصر»، التى قدمها الأسبوع الماضى إلى مؤتمر الثورة والثقافة الذى نظمه المجلس الأعلى للثقافة. الدراسة تأتى فى حينها لأنها تجتهد فى تقديم تفسيرات للأزمة الدستورية الراهنة. فعلى الرغم من «الريادة الدستورية» المصرية- إن جاز التعبير- فإن الثقافة الدستورية والقانونية عموما، عانت من عديد من الأزمات الممتدة، يرصدها نبيل عبدالفتاح فى الآتى:
■ الإطار المرجعى والصراع بين مرجعية الدستور وما تعنيه من ثقافة من ضمنها تقييد سلطة الحاكم وغيرها من عناصر وبين هيمنة الأعراف والثقافة الأبوية وشخصنة السلطة.
■ استمرار الفجوات بين الإطار الدستورى والمخاطبين بأحكام الدستور.
■ دور النظام التسلطى من 1952 إلى 2010 فى موت السياسة ومن ثم إلى تآكل وتقويض الثقافة الدستورية.
(2)
يستعرض الباحث كيف ولدت الثقافة الدستورية تاريخياً فى ظل الدولة الحديثة ومؤسساتها وأجهزتها، ويلفت النظر إلى أنه بالرغم من البداية المبكرة للتأسيس الدستورى، والتى تعود إلى الثلث الأول من القرن التاسع عشر، فإن هذا التأسيس جاء من خلال توطين القوانين الأوروبية لتغدو جزءا من عملية دمج الاقتصاد المصرى فى بنية الاقتصاد الرأسمالى العالمى، وخاصة تجارة القطن. لا ينفى ما سبق نضال النخبة المصرية من أجل التأسيس لحكم دستورى. إلا أنه لا يمكن استبعاد تأثير السياق السياسى على الحركة الدستورية المصرية من حيث البزوغ والتبلور بسبب الحركة الوطنية ونضالات المصريين وبين الخفوت والتراجع بسبب إخفاقات الحكام والصراعات الاجتماعية والتدخلات الاستعمارية من إحداث القطيعة بين الثقافة الدستورية الناشئة والبازغة وبين الواقع.
لقد شهدت مصر فى نهاية حكم إسماعيل (1863- 1879) العديد من اللوائح التى تهدف إلى حكم دستورى مقيد للحاكم مثل: لائحة 5 إبريل 1879، ودستور شريف باشا فى مايو 1879، ودستور 1882 الذى يعد نقطة تحول فى التنظيم الدستورى المصرى الحديث، من حيث طابعه الديمقراطى. وفى المقابل شهدت مصر العديد من حركات النكوص إلى الحكم المطلق، ومنها القانون النظامى 1883 حيث استلبت الحكومة حق تعيين بعض النواب على أساس طائفى. بيد أن الأكيد أن الحركة القومية الدستورية فى جعلها الاستقلال الوطنى ورحيل الاحتلال البريطانى المطلب الأساسى لحركتها وجعل الديمقراطية قرين المطلب الأساسى وكذلك الحكم النيابى قد ساهمت فى نشر ثقافة دولة القانون وسيادته وميلاد حقوق الفرد- بقدر ما- واستقلال القضاء… إلخ، وتمسك الطبقات الجديدة الصاعدة التى باتت تملك وتسعى جادة إلى المشاركة فى الحكم.
(3)
أمران يرصدهما الباحث من خلال استعراضه المسيرة الدستورية المصرية الأول: أن الثقافة الدستورية المصرية كانت تتسم بالابتسار إلى حد ما لأنها لم تكن ترتكز على بنية ثقافية سياسية ليبرالية تعتمد على قاعدة اجتماعية واسعة تشكل دعماً فعالاً للنظام البرلمانى ولقواعده وقيمه المؤسسية. لذا كانت الانقلابات الدستورية سمة المرحلة التاريخية من 1923 إلى 1952(دستورى 1930 و1934). الثانى: عدم نمو ثقافة الفرد والفردانية بشكل عام، وهما عمادا الثقافة الدستورية والديمقراطية الحديثة والمعاصرة. فى هذا السياق يسجل نبيل عبدالفتاح ملاحظة جديرة بالتسجيل يقول فيها «إن الاتجاه الإسلامى السياسى سيستمر فى تجريحه للهندسات القانونية الحداثية، ويحمل معه أيديولوجيا الخلافة الإسلامية، ورفض الدساتير المدنية الحديثة، ومن الشيق أن نلاحظ أن الكتابات حول الدساتير الإسلامية أو النظم الدستورية الإسلامية، أو القانونية- وتحديدا الجنائية- تعتمد أساساً على النظريات الدستورية الحديثة».
(4)
واستمر الحال فى المرحلة الجمهورية وزاده الاستبداد السياسى بالرغم من الاهتمام بالبعد الاجتماعى فى المرحلة الناصرية إلا أن الثقافة الدستورية باتت تتراجع. كانت كل الدساتير (المؤقت 1953 و1956 والمؤقت 1958 والإعلان الدستورى 1964 و1971) هى دساتير ما أطلقنا عليه دساتير «ولى الأمر».
الخلاصة أن كل ما سبق ساهم فى إضعاف الثقافة الدستورية.