دستوريات (2) : أنواع الدساتير

«النص الدستورى لا تكون له قيمة إلا إذا كان يعبر عن جديد قد أنجزه المواطنون فى الواقع من خلال نضالهم المستمر لتحقيق حياة أفضل فى شتى مناحى الحياة، ومن ثم لزم توثيق ذلك فى وثيقة تجسد هذا الإنجاز الجديد فى حياة المواطنين الذين ساهموا فى تحقيقه دون تمييز، بغض النظر عن الأوزان النسبية لانتماءات المواطنين الذين جمعتهم الرغبة الوطنية فى إحداث التغيير». فى هذا السياق ميز فقهاء القانون الدستورى بين أنواع الدساتير، فهناك فرق كبير بين دستور يأتى بعد حركة وطنية وغيره من الدساتير. كيف، وما أوجه الاختلاف بين دستور الحركة الوطنية وغيره من الدساتير؟

(1) يميز فقهاء القانون الدستورى – اعتمدنا على «فيدل» وعبدالحميد متولى – بين عدة أنواع من الدساتير، أول هذه الدساتير ما يطلق عليه: دستور ولى الأمر أو دستور «أفندينا»، إذا جاز التعبير، وهو الدستور الذى يصدر منحة من الحاكم، ولكن مهما كانت نوايا الحاكم أو ولى الأمر أو «أفندينا» فإن صدور الدستور من قبله يعنى ضمناً أنه هو صاحب السيادة والمفوض إلهياً للعناية بأحوال العباد، وعليه فمفهوم سيادة الشعب فكرة لم تزل غير مقررة بعد، ومن ثم فمن يمنح من حقه أن يمنع. ومن نماذج دساتير ولى الأمر يمكن أن نشير إلى الدستور الفرنسى لسنة 1814 الذى منحه ملك فرنسا للأمة الفرنسية، ودستور 1889 اليابانى الذى منحه الميكادو لشعبه، ودستور 1906 الروسى، ودستور 1848 الإيطالى، ويمكن أن ندرج دستور 1971 المصرى الذى جرى بمبادرة من الحاكم فى إطار إقصائى للقوة الوطنية، «وهو ما يمكن أن نفسره فى مقال لاحق».

(2) أما النوع الثانى من الدساتير فهو ما يمكن أن نطلق عليه دستور الحركة الوطنية، وهو الدستور الذى يلى الحركات الثورية الشعبية حيث يحصل تغيير حقيقى فى البنى القائمة، ومن ثم يتطلب الأمر وضع تصور لمستقبل الوطن. ولأن التغيير جاء وفق إرادة وطنية جماعية – نسبياً – فإن هذا يعنى بالضرورة تحقيق تأسيس جديد يتجاوز مبدأ «الحاكم /ولى الأمر /أفندينا مصدر السلطات» إلى مبدأ «الشعب مصدر السلطات»، ويعد الدستور هنا على قاعدة الزخم الثورى الذى تحقق فيه التغيير وعليه يشارك الجميع. وهذا النوع من الدساتير بدأ فى الانطلاق بعد الحرب العالمية الأولى، وفى هذا السياق يأتى دستور 1923 فى مصر. وهذا النوع من الدساتير تضطلع به جمعية تأسيسية تعبر عن عموم المواطنين.

(3) وبين الدستور الأول الذى يقبض فيه الحاكم/ولى الأمر على مقاليد الأمور والدستور الثانى الذى يجنى فيه المواطنون ثمرة حركتهم ونضالهم فى الواقع، يأتى الدستور الثالث الذى يمكن تسميته دستور الغلبة السياسية حيث يجرى فى ظل برلمان تبلورت فيه أغلبية وأقلية سياسية. وعندما يوضع الدستور فى هذا السياق فإن السؤال الرئيسى الذى يفرض نفسه هو: إلى أى مدى يمكن ضمان ألا يقتصر الدستور الصادر على رغبة الأغلبية السياسية أو الدينية وحدها، أو الأقلية لو كان هناك ما يدعمها «الثروة أو القوة»، وأن يعبر الدستور – إجمالاً – عن جموع المواطنين الذين شاركوا فى عملية التغيير وناضلوا معا دون تمييز فى تجاوز ما هو قائم.

(4) فى ضوء ما سبق يؤكد كثير من الدستوريين أن ما يمنح الوثيقة الدستورية قوتها وشرعيتها هو أن تكون معبرة عن عموم المواطنين. ويقول أستاذنا وليم سليمان قلادة فى مرجعه المهم «المواطنة المصرية – 2012»: «إن النظام الدستورى الأصيل والفعال لا يقوم فى الجماعة الوطنية بمجرد إعلان وثيقة تتضمن نصوصاً موضوعة أو مستوردة من المكان أو الزمان، ينهض بصكها خبراء الصياغة، كما أن الدستور ليس مجرد نتيجة تستخلص من بناء نظرى…». ونزيد: وليس الدستور نصاً يستدعى من هنا أو هناك أو من الماضى وإنما هو نص يتشكل وفق التطور المجتمعى وإنجازات حركة المواطنين من أجل بناء مستقبل أفضل. وينقلنا هذا للحديث عن المبادئ الدستورية. فإلى المقال المقبل.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern