(1)
على مدى قرنين عرفت إسبانيا ثلاثة دساتير: دستور 1812 الذى وضع فى الفترة الملكية الدستورية، وتحتفل إسبانيا بمرور مائتى عام على وضعه، وهو ما يعرف بـ«دستور قادش». ودستور 1931 الذى وضع مع تحول إسبانيا إلى النظام الجمهورى الذى استمر إلى 1936، وانتهى عمليا بالحرب الأهلية وحكم فرانكو للبلاد سنة 1939.وحكمت البلاد خلال فترة حكم فرانكو بمجموعة من القوانين التى كان يصدرها الديكتاتور والتى كانت تصب فى اتجاه مصادرة الحقوق السياسية والمدنية، والملاحقة الأمنية للتكوينات العمالية والمهنية والشبابية والسياسية. ومع تنامى حركات المقاومة والاحتجاج- خاصة العمالية- اضطر الديكتاتور إلى إعلان حالة الطوارئ ثلاث مرات فى سنتين: 1969 و1970.
(2)
مع موت الجنرال بدأت عملية التحول الديمقراطى «4 مراحل»، بالحديث عن الإصلاحات الشاملة فى إسبانيا، التى من ضمنها صياغة دستور جديد للبلاد فى ضوء ما تشهده من تحولات. وبالفعل تشكلت لجنة صياغة الدستور فى مايو 1977 التى انتهت من صياغته فى أواخر عام 1978. وكان «التوافق» هو الكلمة السرية فى إعداد الدستور، كذلك التمثيل العادل لكل الاتجاهات السياسية الإسبانية. وقامت بصياغته لجنة برلمانية مكونة من سبعة أعضاء عرفوا: بـ«الآباء المؤسسين/ الرعاة للدستور»، حيث كانوا يمثلون كل الكتل البرلمانية التى حظيت بعضوية الانتخابات التشريعية فى عام 1977 من اليمين والوسط واليسار، بمن فى ذلك الشيوعيون والقوميون «الكتالانيون والباسكيون، نسبة لإقليمى كاتالونيا والباسك». ونلاحظ هنا أن التمثيل العادل لكل القوى الوطنية كان هو العنصر الحاكم فى عملية تشكيل اللجنة الدستورية، وليس الانتصار السياسى. فالدستور لابد من أن يكون تعبيرا عن ألوان الطيف الوطنى والسياسى لا الغلبة السياسية.
(3)
وحكم العملية الدستورية قاعدة مهمة تم التوافق عليها بين أعضاء لجنة الصياغة، ألا وهى البدء بما هو مشترك فيما بين كل القوى الوطنية. ويقول أحد السياسيين الإسبان البارزين Enrique Guerrero، نائب رئيس المجموعة الاشتراكية فى البرلمان الأوروبى (الذين التقيتهم فى رحلتى إلى إسبانيا أكتوبر الماضى بحضور سفيرنا الصديق أيمن زين الدين): «إن جميع القوى السياسية قبلت منذ البداية أن تنطلق من المساحات المشتركة فيما بينها، من أجل الوصول إلى نص يلقى قبولاً شعبياً واسعاً، اقتناعا بعدم صواب فكرة إنتاج الدستور ذى الطابع الأيديولوجى أو الحزبى أو القومى، الأمر الذى يؤدى إلى (غلبة) رؤية طرف على حساب باقى الأطراف». وفى هذا السياق قدم الأمثلة التالية:
■ قبول الحزب الاشتراكى باستمرار النظام الملكى رغم فكره الجمهورى، مقابل الاعتراف بالحقوق السياسية والحريات والديمقراطية.
■ فى حين قبل الحزب الشيوعى بحقوق الملكية الخاصة واقتصاد السوق، رغم إيمانه بالملكية العامة والاقتصاد الموجه، مقابل تجنب النص على دين للدولة رغم الأغلبية الكاثوليكية الكاسحة.
■ كما قبل القوميون فكرة وحدة الدولة، مقابل تطبيق نظام لا مركزى قائم على الحكم الذاتى.
ونضيف إلى ذلك عمق النص ومقاربته لقضايا عدة وفق القواعد الدستورية المتعارف عليها.
(4)
وضع الدستور، ومازال حاكما إلى الآن، لأنه لم يكن «دستورا من ورق» بل دستورا حقيقيا.