اليسار الديني - 3

ناقشنى بعض الأصدقاء فيما أكتب حول اليسار الدينى.. وكان محور النقاش ينطلق هل يمكن أن يكون هناك يمين دينى ويسار دينى؟.. أليس الدين واحدا، ومن ثم نصوصه لها تفسير معتمد واحد؟.. قلت بداية يجب أن نفرق بين الدين الوحى بنصوصه وهى تعبر عن المطلق، والمقدس والأبدى غير القابل للتحريف، وبين السياق الذى يتم التعامل فيه مع هذه النصوص.. فالقطعى أن كل فرد إنسان عند تعامله مع النصوص سوف يتقبلها وفق تحيزاته، وفهمه، واللحظة التاريخية التى يعيش فيها.. ومن ثم تعددت التأويلات،

وأبدع العقل الإنسانى عبر العصور فى تناوله النصوص، والنتيجة أن وجدنا أنماطا من التدين فى الدين الواحد، وعليه اختلفت الأولويات بحسب اختلاف أنماط التدين.. ومن ثم وجدنا اجتهادات تسير فى تفسير النصوص تنحاز يمينا وأخرى تنحاز يسارا.. ويبدو لى أن ما يتحكم فى تنوع هذه الاجتهادات هو طبيعة اللحظة التاريخية أو السياق التاريخى فى دعم تنوع الاجتهادات، كيف؟

(2)

لو أخذنا الفترة الزمنية الممتدة منذ تأسيس الدولة الحديثة (1805) إلى يومنا هذا سوف نجد أن مسيرة الاجتهاد، التجديد الدينى، المسيحى والإسلامى ارتبطت إلى حد كبير بالسياق المجتمعى.. ويمكن القول بأن الاجتهاد «التجديد الدينى» خلال هذه الفترة كان يميل يمينا أو يسارا بحسب طبيعة المرحلة التاريخية.. وفى هذا المقام يمكن رصد أربع مراحل مر بها الاجتهاد «التجديد الدينى» على مدى أكثر من 200 عام.

(3)

أولا: المرحلة التأسيسية: من 1805 إلى 1919، بسبب أن مصر كانت تناضل من أجل بناء مؤسسات الدولة الحديثة بعد قرون من العيش فى ظل الطائفية والحكم الوافد متعدد المستويات، فلقد اتسم الخطاب الدينى بالاستنفار والإحياء لاستيعاب قيم الحداثة والاستفادة منها دون تفريط، لذا سادت كتابات تؤكد الاستقلال والذات الحضارية..إلخ.. ثانيا: المرحلة التعددية والراديكالية على التوالى: من 1919 إلى 1969 شهدت هذه الفترة صعودا للطبقة المتوسطة، التى تقدر قيمتى التعليم والعلم والمعرفة، وأيضا مناخا ثوريا يناضل من أجل الاستقلال الوطنى والتقدم الاجتماعى، وعليه وجدنا كتابات تجتهد فى إنجاز مقاربات عقلية للإيمان، وتاليا مقاربات مجتمعية تناولت قضايا الفقر والصراع الطبقى.. ثالثا: المرحلة المحافظة: من 1969 إلى 1979 أصاب مصر الكثير من التراجع طال كل أبنيتها، فتراجع الاجتهاد «التجديد الدينى» حيث انحاز فى المجمل ضد الحداثة، وليس صدفة ـ فيما أظن ـ أن يتواكب ذلك مع تحول مصر من اقتصاد ذى طبيعة إنتاجية إلى اقتصاد ذى طبيعة ريعية.. رابعا: المرحلة النيوليبرالية: من 1979 إلى 2011، التى تتسم بموقف متراوح، حيث مطلوب أن تسوغ لاقتصاد السوق، وقيم العولمة، خاصة أن العقيدة النيوليبرالية من ضمن ما تقوم عليه فى حل مشاكل الفقراء تفعيل العمل الخيرى والإغاثى والإعانى، وعليه يذهب قدر من فائض هذا المال فى قنوات دينية.. وفى الوقت نفسه بات مطلوبا نشر خطاب دينى يحمى من آثار العولمة.

(4)

إذن، يمكن أن نتفق على أن المناخ العام «السياق المجتمعى» بأبعاده المتنوعة يحدد إلى حد كبير طبيعة الخطاب الدينى، كما يتحكم فى مدى تبلور يسار «يمين دينى».. ويبقى السؤال: لماذا كان حظ اليمين الدينى أن تكون له مؤسساته، وأن يكون هو الأكثر حضورا فى واقع الغلابة؟.. نتابع.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern