(1)
بدأنا فى مقالنا الأول، الاقتراب من قضية اليسار الدينى، فى ضوء السؤال الذى طرحه منذ أسابيع الدكتور حسن حنفى فى «المصرى اليوم»: «هل فشل اليسار الإسلامى؟».. وقد حاولنا أن نتوسع فى تناول الموضوع ليشمل «اليسار الدينى» فى واقعنا عامة.. وقد حاولنا فى إجابتنا الأولية أن نشير إلى أن أزمة اليسار الدينى أنه كان لابد أن يكون أكثر من حركة إبداعية، بحسب حسن حنفى،.. فالتجارب الناجحة لليسار الدينى فى العالم، نجحت لأنها سلكت سلوك التيارات المجتمعية الحريصة على الفكر والحركة فى آن واحد..
فكر وحركة فى حالة تكامل مبدع هدفه «الغلابة».. فكر وظف إبداعات الفكر العالمى المحدثة فى خدمة تجديد الفكر الدينى، فكانت الحصيلة إنتاجا فكريا ـ فقهى/ لاهوتى، ذات تأويلات نحو العالم والمجتمع والإنسان، تقدمية وراديكالية تسعى إلى تغيير الواقع ولا ترضى بقبوله كأنه «قدر» لا فكاك منه.
(2)
فكر مبدع آمن بأن «الغلابة» يملكون من الطاقات الكامنة ما يؤهلهم أن «يغيروا ما بأنفسهم»، وما فرضته عليهم وقائع حياتية ساد فيها الأقوى، انطلاقا من الإنسان قد خلق ليمارس أساسا دور: خليفة الله/ صورة الله فى الأرض.. ومن ثم عليه الكثير من المهمات الجليلة.. ما يستدعى إطلاق الكامنة داخله.. وتوالت الاجتهادات والمعالجات والمقاربات التى تداخل فيها الدينى مع الاجتماعى والثقافى والسياسى والاقتصادى.. فرأينا الكثير من الأدبيات (نقدم لبعضها لاحقا).. لم تكتف هذه التيارات بالفكر، فابتكرت الكثير من الآليات العملية الميدانية التى تحقق من خلالها تصوراتها الفكرية فيتحقق التواصل بين الفكر والحركة فى علاقة «جدلية».. ومن ثم لا يصبح الأمر مجرد «تنظير»، منبت الصلة بالواقع.. وعليه كانت هذه التيارات فاعلة فى المجتمع فكريا وحركيا.. وناجحة فى أن تحفر لنفسها مكانا بين باقى التيارات المجتمعية بقدرتها على تغيير الناس والواقع.. فالناس باتت قيمتهم الإنسانية والمجتمعية أكثرـ بكثيرـ من أن يتلقوا المعونة والإحسان ويبقوا على ما هم عليه.. فلقد باتوا قوة عاملة منتجة وضاغطة على المؤسسات الدينية والحكومية على التوالى.. ليس من أجل المزيد من المعونة بل من أجل المزيد من الإصلاحات الجدية فى البنى المختلفة التى تؤدى إلى تقدم الدولة/ المجتمع.
(3)
رأينا هذا فى أمريكا اللاتينية من خلال الإرهاصات الأولى لتجربة لاهوت التحرير التى دفعت كنائسهاـ مع تفاقم الفقر ـ إلى لقاء مجلس أساقفة أمريكا اللاتينية فى 1955 لمناقشة قضايا شديدة الاهتمام.. ولا أكون مبالغا إذا قلت إن هذا اللقاء كان من العوامل الأساسية لدفع الفاتيكان أن يبدأ فى مراجعة نفسه وينظم مجمعه الشهير مطلع الستينيات الذى أجرى فيه الكثير من الإصلاحات.. بيد أن الحركة المنطلقة فى أمريكا اللاتينية كانت قد انطلقت وبلغت ذروتها فى السبعينيات من القرن الماضى، وكان لها دورها المؤثر فى إحداث الكثير من التغيرات الجذرية فى الكثير من بلدان أمريكا اللاتينية.. (راجع دراستنا المبكرة عن تجربة لاهوت التحرير ـ يناير 1994 بمجلة القاهرة).. وهو ما وجدناه أيضا عند قراءتنا عن تجربة جولن التربوية فى تركيا..
ولكن إذا فعلوا تحديدا.. وكيف تبلورت فكرة اليسار الدينى بدقة.. وما الفرق بين اليسار الفكرى والسياسى فى المنطقة والعالم فى موقفه من اليسار الدينى.. أسئلة نواصل الإجابة عنها.