(1)
خلصنا فى المقالات السابقة إلى أن السياق التاريخى هو المحدد والحاكم لوجود اليسار الدينى من عدمه.. وأنه بقدر ما تكون مصر منحازة إلى مشروع للتقدم والحداثة نجد خطابا دينيا منحازا للتقدم وقضاياه وللغلابة وشؤونهم.. وقد رصدنا أربع مراحل تاريخية لمسيرة الخطاب الدينى ورأينا كيف أنه فى الفترة من 1919 إلى 1969 كان هناك خطاب فكرى معنى بالقضايا التى يمكن أن تندرج من ضمن جدول أولويات الفكر اليسارى مثل: الفقر، والعدالة الاجتماعية، ومقاومة الفساد وأشكال التفاوت المختلفة، والمواطنة وضمان الحقوق، والتعددية،.. إلخ.. إلا أن المشكلة الحقيقية كانت تكمن فى أن الفكر الدينى المنحاز يسارا لم يتمكن من أن ينظم نفسه من خلال كيانات تمكنه من أن يتواصل مع من المفترض أنه يدافع عنهم أى: المستضعفون…وأظن أن هذا يعود إلى سببين.
(2)
السبب الأول هو أن اليسار الدينى شأنه شأن اليسار عامة اكتفى بأن يكون خطابا نخبويا.. صحيح أنه أنجز فى غرس الأسس الفكرية للتفسيرات المجتمعية لقضايا الناس الحقيقية، إلا أن هذه التفسيرات لم تجد الوسيلة/القناة التى توصلها لمن تتحدث وتدافع عنهم.. لذا رأينا خطابا دينيا: إسلاميا ومسيحيا، فى حالة جدل وتشابك مع الواقع الإنسانى على كل الأصعدة: السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.. فكانت اجتهادات طه حسين، وأحمد أمين وعبدالمتعال الصعيدى والسباعى والنويهى وحسن حنفى ومحمود إسماعيل ومحمد عمارة فى كتاباته المبكرة ومحمد سعاد جلال، ومتى المسكين والأنبا شنودة والأنبا غريغوريوس ووليم سليمان قلادة، يتناولون قضايا تتلق بمفاهيم: العدالة الاجتماعية، والثروة وتوزيعها، والمال ومفهومه، والمساواة الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى قضايا الحريات والعلاقة بين السلطة والأفراد،.. إلخ.. أفكار تم بلورتها من داخل الحقل المعرفى الدينى، إلا أن القليل منه هو ما وصل منه إلى عموم الناس.. فظلت اجتهادات تقدمية معتبرة كان من شأنها متى وصلت إلى الناس أن ترقى بهم وبممارساتهم وتحررهم من قيود الثقافة التقليدية التى تحرص على بقاء الأمر على ما هو عليه.
(3)
السبب الثانى هو أن اليسار الدينى كما لم يجتهد فى التواصل مع الناس.. أيضا قصر فى فهم أن أحد أهم عوامل التأثير فى أن يحافظ على عملية التراكم التى بدأت مع تأسيس الدولة الحديثة الوطنية والتى تمتد جذورها فى اللاهوت المصرى الذى انطلق مع تأسيس مدرسة الإسكندرية اللاهوتية والذى انحاز إلى لاهوت الناس من خلال كتابات إكلمنضس السكندرى من جهة، والفقه المصرى الذى تأسس مع الليث بن سعد والذى أعطى أولوية «للغلابة» من جهة أخرى.. ولا شك فى أنه إذا ما تم جمع هذا التراث سوف نجد مادة فكرية خصبة تصب فى «يسار دينى» بامتياز.. والأهم أن يجد هذا التراث طريقه للناس ليعرفوا أن هناك اجتهادات تتحدث عنهم كخلفاء لله- وصورة لله وأن قيمتهم كبيرة لدى الإله، ومن ثم عليهم مسؤولية إعمار الأرض وحفظها وتقدمها، وعليهم أيضا مواجهة الظلم والقهر والتخلف.. ولن يتأتى هذا إلا إذا تمثلت النخبة هذه القيم عمليا وقدمت ممارسات عملية للغلابة.. وعليه يصبح الدين طاقة للتحرر ومن ثم التقدم.. وبهذا يتكامل المعرفى بالعملى.