الدين والتغيير.. لماذا التراوح؟ (1)

تشير الخبرة التاريخية إلى أنه فى لحظات التحول المجتمعى تظهر على السطح الكثير من الإشكاليات والأسئلة التى تحتاج إلى إجابات حاسمة. من هذه الأسئلة، والذى طُرح بشكل جدى: ما موقف الدين من التغيير المجتمعى؟ خاصة أن الموقف الدينى من الحراك الشبابى الشعبى الذى جرى فى مصر فى الأسابيع الماضية- ولا يزال- كان متراوحا بين تحريم المشاركة فى هذا الحراك وضرورتها، ويكون السؤال المشروع هو: هل الدين مع حق الإنسان فى أن يسعى نحو التغيير أم لا؟

(1)

ننطلق من رؤية تقول بأن هناك علاقة شرطية وجدلية بين الفكر الدينى واللحظة الزمنية التى يتم فيها إنتاج هذا الفكر الدينى، بمعنى أن الفكر الدينى هو «ابن زمانه» لأن من يعبر عنه هم بشر- فى النهاية- لهم مصالحهم وعلاقاتهم وتحيزاتهم، وهنا نفرق بين الدين الموحى به سواء فى المسيحية أو الإسلام فى صورته النقية المنحاز للمبادئ المطلقة كالعدالة والمساواة..إلخ، وبين الفكر الدينى الذى هو نتاج جهد مبذول فى التفكير فيما جاء بالنصوص ودراستها بما يوفر إجابات لأسئلة يطرحها الواقع فى لحظة زمنية معينة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الاجتهاد الفقهى أو التجديد اللاهوتى. إنها المحاولة البشرية المبدعة فى إعادة قراءة النصوص الدينية فى لحظة تاريخية معينة.

(2)

والقارئ لمسار الخطاب الدينى، تاريخيا، سواء فى الخبرة المصرية أو العالمية، سيلحظ كيف تختلف الموضوعات التى يشتبك فيها الخطاب الدينى وذلك بحسب السياق التاريخى. ففى الأوقات التى تسعى فيها المجتمعات للتحرر وإحداث التغيير سوف تجد أن الأولوية تكون للموضوعات التغييرية، والعكس صحيح. وتعكس القراءة التاريخية من محمد على إلى الآن، ما سبق.

(3)

المرحلة الأولى، ويمكن تسميتها «المرحلة التأسيسية»، وهى اللحظة التى حدث فيها استنفار للفكر الدينى، وهذه المرحلة بدأت فى منتصف القرن التاسع عشر مع بدء الاحتكاك بالغرب سواء على المستوى الإسلامى الحضارى أو على مستوى المسيحية مع بدء صراعها مع الإرساليات التبشيرية.. وفى هذه المرحلة بدأت المؤسسات الدينية تقوم بعملية إحياء ذاتى تعليمى، أيضا بدأت فى إعادة بناء مؤسسى داخلى تجلى فى إصلاحات الأزهر على الجانب الإسلامى.. وفى إعادة تأسيس الإكليريكية وتكوين حركة مدارس الأحد فى سنة 1898.

والمرحلة الثانية بدأت مع ثورة 1919 وحتى 1969، التى اتسمت بـ«الليبرالية/ التعددية ثم بالراديكالية»، حيث كان الفكر الدينى معنياً بدرجة أو أخرى بقضايا التحديث والحداثة.. وكان الفكر الدينى فى هذه المرحلة الممتدة يخوض فى مناطق كان لا يخوض فيها من قبل حيث قام بأمرين هما: قام بمقاربات عقلية للإيمان وتطرق لقضايا مثل قضايا التطور والعلوم التطبيقية الجديدة، ويمكن الرجوع لمجلة «الكرمة» لحبيب جرجس ومجلة «مدارس الأحد» التى رأس تحريرها نظير جيد (البابا شنودة ثم وليم سليمان قلادة على التوالى)، كما اهتم الفكر الدينى- لاحقا- بالقضايا المجتمعية مثل قضايا الفقر والمساواة بين الطبقات والتنمية.

والمرحلة الثالثة ونسميها «المرحلة المحافظة» للفكر الدينى كانت من 1969 إلى 1979، وهى التى اعتبرت الحداثة عدوها الأول لأنها تتلاعب بسنن الله.. ويلاحظ أن هذه المرحلة هى المرحلة التى شهدت قيام الثورة الإيرانية واختطاف التيار المحافظ لها، كذلك حصار حركة لاهوت التحرير وبزوغ اليمين المسيحى الجديد فى أمريكا، أى غلبة التيارات المحافظة فى الفكر الدينى (وهما الحركتان اللتان درسناهما تفصيلا فى وقت مبكر)، ونحن لم نكن بمعزل عن هذا السياق، زاده محافظة التوتر الدينى الذى شهدته مصر خلال هذه الفترة.

والمرحلة الرابعة هى مرحلة «متراوحة»، ساهمت الليبرالية الجديدة التى سادت خلال هذه الفترة- إلى جانب الأزمة الاقتصادية الأخيرة- فى كيفية خلق نمط من العلاقات يقوم على الصمت على الأخذ باقتصاد السوق وفى نفس الوقت الحماية الأخلاقية لآثاره المدمرة، وتسويق أن الفقر تتم معالجته بالأعمال الخيرية.

(4)

لذا تركز الفكر الدينى فى استعادة كتب التراث دون إجراء معالجات تجديدية لما جاء فيها- إلا فيما ندر- وفى نفس الوقت لم يستطع الفكر الدينى أن يتجدد، حيث كانت مهمته هى تسويغ ما هو قائم أو تبريره واحتمال آثاره، لذا غابت المقاربات العقلية للقضايا الإيمانية كما توارت المقاربات المجتمعية المعنية بالمساواة وفهم ما يطرأ على البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وما إن حدث الحراك الشبابى الشعبى حتى كان التراوح الدينى حاضرا.

عن الدروس المستفادة والمستقبل، نتحدث فى مقالنا القادم.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern