الروس القادمون - 7 - المسألة الديمقراطية

(1)

على مدى ست حلقات الاقتراب من تجربة الانطلاق الإمبراطورى الروسى، وكيف استطاع فلاديمير بوتين أن يجدد المقولة التاريخية الروسية القائلة إنه «لا معنى لروسيا بدون إمبراطورية»، فعمل على إحياء الإمبراطورية الروسية، إمبراطورية تختلف نوعيا عن الإمبراطورية القيصرية، كذلك عن إمبراطورية الاتحاد السوفيتى، محاولا تلافى كل أخطاء الماضى، وشرحنا كيف جدد الاقتصاد الروسى وانطلق إقليميا: أوروبيا وآسيويا، كما انطلق كونيا، ينافس، ويدعم، ويقيم التحالفات ذات الطابع التجارى،… إلخ. كما تحدثنا عن توظيفه للثقافة السلافية والقومية كطاقة روحية للإمبراطورية الروسية الجديدة، وذكرنا العديد من الأرقام الدالة على الحضور الروسى الجديد فى المسرح الدولى، يتبقى لنا أن نتحدث عن المسألة الديمقراطية، وهى بالفعل «مسألة»- أو يمكن القول «معضلة»- روسيا الجديدة، كيف؟

(2)

يمكن القول إنها الملف «المؤجل»؛ فالقارئ للمسيرة الديمقراطية لروسيا على مدى عقدين من الزمان سوف يجدها تدار بشكل فوقى منضبط للغاية، والباحث بدقة لتحول روسيا الديمقراطى سوف يجده يدار مركزيا بما يدعم المشروع الإمبراطورى. يطلق الباحث هانى شادى فى دراسته المعنونة «التحول الديمقراطى فى روسيا من يلتسين إلى بوتين» على الديمقراطية الروسية «الديمقراطية الموجهة» من قبل الحاكم (يعود هذا التعبير إلى مطلع الستينيات عندما استخدم للمرة الأولى لوصف نظام سوكارنو فى إندونيسيا)، ففيها من الضبط والفوقية المركزية أكثر مما فيها من القاعدية والحراك المفتوح، فمنذ تسلم بوتين مقادير السلطة نهاية التسعينيات، عمل على الأخذ بالاقتصاد المفتوح مع الالتزام بدفع النفقات التى تؤمن العدل للجماهير، ولكنه فى نفس الوقت اجتهد بنعومة شديدة «على مركزة» السلطة فى يد الإمبراطور الروسى الجديد، للحفاظ على وحدة روسيا وعدم انفراطها، وضبط شبكات المصالح الاقتصادية وبخاصة النفطية، مقابل الكف عن التدخل فى سياسة الدولة والكرملين، ومساعدة الحكومة فى برامجها الاجتماعية لمساعدة الفقراء ومحدودى الدخل، وتسديد الضرائب والكف عن المعارك الطاحنة بين عناصر شبكات المصالح حول الاستئثار بالصفقات،.. إلخ، من جهة أخرى، وقد رافقت ذلك التصفية العنيفة للانفصاليين.

(3)

إذن، أبطأ بوتين ـ بشكل آلى تحكمى واعٍ ـ عملية التحول الديمقراطى على مدى ولايتين رئاسيتين 2000 ـ 2008، بعد أن غلب التعيين فى الكثير من المؤسسات للموالين للمشروع الإمبراطورى الجديد، فى المقابل حجم شبكات المصالح لصالح الفقراء (راجع تصفيته لأهم ثلاثة مليارديرات وهم: بيروزوفسكى، وجوسينسكى، وخودركوفسكى)، وقد أيد معظم المواطنين إجراءات بوتين ضد «الأوليجاركية» أو الأقلية الثروية أو الاحتكارية، ولكن ظلت الديمقراطية المسألة العالقة.

(4)

مع عودة بوتين لسدة الحكم فى 2012، قدم العديد من التنازلات السياسية لمواجهة الاحتجاجات العارمة التى عمت روسيا، منها تخفيف القيود على تأسيس الأحزاب، ومناقشة العودة إلى انتخاب حكام الأقاليم،.. إلخ، والسؤال المطروح الآن: هل يكفى ذلك؟

(5)

حافظ بوتين على وحدة روسيا، وأقالها من عثرتها السوفيتية، وحقق نهضة اقتصادية مقبولة، وأصبح حاضرا كقوة كبيرة فى كثير من المواقع، وانحاز للفقراء، ولكن الثورة من أعلى جربت ولم تنجح، كما أن المراعاة الشكلية للإجراءات الديمقراطية «الصندوقية» لا تحقق تحولا ديمقراطيا حقيقيا، الحوار الدائر الآن هل تنجح روسيا أن تحل الشفرة الديمقراطية لتواكب نجاحاتها الأخرى وتبلغ ديمقراطية دستورية حديثة؟ أم يتكرر ما جرى فى دول أخرى من تفكك، بل كما حدث للاتحاد السوفيتى نفسه بسبب الاستبداد، وعليه يتحقق وصف البعض بأنها كانت «إمبراطورية هشة»؟، هذا ما سوف تجيب عنه الفترة القادمة، بل ربما تجيب عن سؤال عن سر عدم ارتياح روسيا «للحركات» العربية.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern