«1» يكن من المنطقى أن تنطلق روسيا فى تطبيق مشروعها الإمبراطورى، دون أن «تستجمع معالم هويتها المركبة» (بحسب رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاع فى روسيا)، وتفعلها لتكون أحد الأركان الأساسية التى تقوم عليها الإمبراطورية الجديدة القادمة بقوة، بالإضافة للعناصر التى طرحناها سابقا: الاقتصادية، والسياسية، والاستراتيجية…إلخ. وعليه، فقد حرص المشروع الإمبراطورى الجديد على أن يعيد الاعتبار للهوية الوطنية الروسية وجوهرها القومى، وهو ما أهملته الإمبراطورية السوفيتية، وكان ذلك أحد العناصر الأساسية التى ساهمت فى تفكيك الاتحاد السوفيتى. وعت القيادة الروسية التى تسلمت وطنا «خربا»، مطلع التسعينيات، أن إعادة البناء ليست سهلة، خاصة إذا ما كانت الرغبة فى البناء تنطلق من المقولة التاريخية الاستراتيجية الروسية: «لا معنى لروسيا دون إمبراطورية»، ما يعنى «تجديد المقوم الثقافى الروسى ببعديه الحضارى والقومى، فى إطار وطنى مركب»! كيف؟
«2» النقطة المركزية المحورية هى أن «الشعب الروسى: جماعة تاريخية تحمل جميع ملامح الشخصية السياسية التامة القيمة الحضارية، كما أنه متوحد إثنيا، ثقافيا، نفسيا» (بحسب أحد الاستراتيجيين)، وهو النواة لروسيا الموحدة المكتملة الملامح الثقافية: بداية من موزاييك الإمارات السلافية الشرقية قبل روسيا الموسكوفية (القرن التاسع الميلادى)، وإمبراطورية بطرس القيصر، والحقبة السوفياتية. والفكرة الأساسية التى تم التوافق عليها فى ضوء المقولة السابقة «أن روسيا أمة»، (وهى مقولة ثابتة فى أغلب الأدبيات الروسية التى تتناول روسيا حضاريا واستراتيجيا). لماذا؟
«3» لأن الشعب الروسى لم يقدم القاعدة الإثنية فحسب لجميع هذه التكوينات الهيكلية (لروسيا الموزاييك التاريخى فى البدايات ثم روسيا القيصرية فالسوفياتية)، وإنما عبر فيها عن فكرة حضارية، لذا، فليست الدولة هى التى كونت الأمة الروسية، (فالدولة الأمة لم تظهر فى التاريخ الروسى إلا مع نهاية القرن السابع عشر) بل، على العكس، إن الأمة الروسية، الشعب الروسى قد وازن فى التاريخ بين الأنماط المختلفة لنظم الحكم معبرا بطريقة مختلفة عن خصوصية روسية، وأن لها رسالة حضارية.
«4» فى هذا السياق، أصبح الشعب الروسى، بحسب الأدبيات الاستراتيجية للإمبراطورية الجديدة القادمة هو: «مركز التصور الجيوبوليتيكى» (أى الجغرافى والسياسى)- أى أنه الفاعل السياسى الرئيس الذى يبدأ منه سلم مصالح روسيا الجيوبوليتيكية والاستراتيجية، بالإضافة إلى مصالحها الاقتصادية- الاجتماعية. ذلك لأنه من خلال التاريخ استطاع أن يحمل فى داخله طاقة ثقافية مركبة تتضمن: القومية السلافية، والثقافة الأرثوذكسية، والوطنية الروسية. طاقة يحملها الشعب الروسى الممتد فى مساحة شاسعة: أوروبية آسيوية. طاقة ثقافية متجددة ومنفتحة- ليست منغلقة أو جامدة، قادرة على استيعاب واحتضان «خليط أكبر فأكبر من الشعوب والثقافات والأديان والأراضى والأقاليم». ليس بالمعنى الاستعمارى، بل بالمعنى التكاملى. وهو ما يفسر حركة روسيا لتشكيل تكوينات متنوعة من التحالفات القائمة على التكامل الاقتصادى، مثلما شرحنا فى مقالات سابقة الكيفية التى تتحرك بها روسيا على المستويين: الإقليمى، والكونى. هذه الطاقة الثقافية تعمل الآن على تجديد الثقافة الروسية بعناصرها المتعددة: الفكرية، واللاهوتية والإبداعية.
يتبقى لنا الحديث عن المسألة الديمقراطية (الملف المتعثر فى الإمبراطورية القادمة).