الحرب الهادئة وتقاسم البرتقالة الأوكرانية

الحرب الهادئة‏;‏ هو الوصف الذي أصبح متداولا لتعريف حالة العلاقات الدولية في مرحلتها الراهنة‏…‏ وقد حرصنا أن نعرف القارئ الكريم به لنلفت النظر أن تحولات كبيرة تجري في العالم لها تداعياتها علي الإقليم‏.‏

وان فهما لطبيعة الحرب الكونية الجديدة يعد أمرا ضروريا لأننا جزء من المنظومة الدولية. وأن الاستغراق التام في إنجاز التحول الداخلي, لا ينبغي أن يصرفنا عن الميكانيزمات الجديدة التي جاءت بها الحرب الهادئة. وأنه لا يمكن الانعزال بشأننا الداخلي عن تفاعلات هذه الحرب: شديدة التعقيد… كما حاولنا أن نشرح في مقالنا السابق. الحرب الهادئة هي تعبير عن معادلة مركبة تجمع بين نقيضين هما: الصراع والتعاون, بين القوي العظمي. وهي علي النقيض من الحرب الباردة التي سادت العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. فالأخيرة لم تكن تسمح إلا بالصراع بين المعسكرين, حيث كان كل معسكر يحمل رؤية للعالم تتناقض مع الآخر: رأسمالية/غربية/ في مواجهة الاشتراكية/ الشرقية أخذا في الاعتبار تقاسم العالم بينهما علي أساس ايديولوجي, بينما الحرب الهادئة تتيح التعاون بين المتناقضين في إطار التنافس… والنموذج الأعلي في هذا هو العلاقة بين الصين وأمريكا. فنحن أمام علاقة مركبة من التنافس والتعاون في آن واحد مما أطلق عليه القوة المزدوجة. وهي العلاقة الملهمة بمبدأالحرب الهادئة, التي باتت هي السمة الغالبة علي العلاقات الثنائية وبين المجموعات الدولية المختلفة في بنية العلاقات الدولية. ويمكن في هذا المقام أن نأخذ الحالة الأوكرانية كنموذج لقوتين هما: الاتحاد الأوروبي وروسيا في حالة: تنافس/ تعاون, حول أوكرانيا التي تعيش حالة تحول ديمقراطي متعثر في الداخل تتحكم فيها شبكات المصالح.. كيف؟


بداية أوكرانيا هي إحدي جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة, وهي جمهورية تنتمي للدول ذات الثقل البشري حيث يقترب عدد سكانها من الـ50 مليون نسمة. وعليه تعد سوقا جاذبة للاستثمار بالنسبة للاتحاد الأوروبي, إلا أن المشكلة التي تحول دون ذلك أن روسيا وبعد تفكيك الاتحاد السوفيتي قد أعادت تصوراتها الجيوسياسية بإعادة الاعتبار للإمبراطورية الروسية كقوة: أوروبية آسيوية اقتصادية كبيرة… وعليه عمل بوتين منذ سنة2000 علي انجاز هذا المشروع بانطلاق روسيا الأوراسية, التي تمتد علي مدي الحدود الأسيوية والأوروبية. وقام بتوقيع اتفاقية الأمن الجماعي بين: روسيا وبيلا روسيا وأرمينيا وكازاخستان قرجيزيا وطاجيكستان وأوزبكستان. وقد تطور التعاون لاحقا من خلال تأسيس اتحاد جمركي بين روسيا وبيلا روسيا وكازاخستان في مايو.2011 وقد حقق الاتحاد عائدات تجارية تقدر بـ750 مليار دولار.

بهذا المنطق تسعي روسيا أن تستكمل هذا الاتحاد بحضور باقي الجمهوريات ومن ضمنها أوكرانيا. وهنا تكمن المشكلة ذات المستويات المتعددة؟ والتي نوجزها في الآتي:

أولا: الخطط الإقليمية; الأوروبية من جهة, والروسية من جهة أخري. فكل منهما له مصالح استراتيجية عميقة لدي أوكرانيا. فروسيا علي سبيل المثال: يمر أنبوب الغاز الرئيسي إلي اوروبا عبر اوكرانيا, أما الاتحاد الأوروبي فإنه وعد أوكرانيا بقرض يصل إلي20 مليار دولار يهدف إلي تحديث البلاد ومحاربة الفساد ونشر الديمقراطية وهو ما ترجم لدي قطاعات كثيرة بأنه يعني الالتحاق بأوروبا ومنح مواطني أوكرانيا دخول الأراضي الأوروبية دون تأشيرات.( يلاحظ أن دولا مثل رومانيا وبلغاريا قد وعدتا بذلك منذ سنة2007 ولم يحصلا بعد علي ما وعدا به). ويشار إلي أن حجم التجارة بين أوكرانيا وكل من روسيا والاتحاد الأوروبي يكاد يكون متساويا. ثانيا:التعثر الداخلي للتحول الديمقراطي الأوكراني; ثار الأوكرانيون في عام2004 ـ لأسباب كثيرة ـ وعرفت ثورتهم بالثورة البرتقالية, ومنذ ما يقرب من10 سنوات الآن لم تستطع أوكرانيا أن تحدث تحولا ديمقراطيا تاما, بل وقعت في أسر ـ ما أطلق عليه ـ شبكات الامتيازات المغلقة سواء التي في الحكم أو المعارضة لها, والتي ورثت ملكية قطاعات الطاقة والصناعة والمصارف نتيجة لسياسات الخصخصة, والتي توزع ولاؤها بين الروس من جهة وبين الاتحاد الأوروبي من جهة أخري. المحصلة, هي الحالة التي باتت عليها أوكرانيا في الداخل حيث لا تحول ديمقراطي حقيقي وفي الوقت نفسه عدم تصويب الأوضاع الاقتصادية بسياسات وطنية ناجعة, ما أدي إلي أن يتم تقاسمها كالبرتقالة بين شبكات المصالح الحاكمة من جهة وبين القوي الإقليمية من جهة أخري, مع ملاحظة أن القوي الإقليمية تتنافس علي أوكرانيا وتمارس التنسيق ـ لم يعد سرا ـ علي ضرورة التوافق الأوروبي الروسي حول أوكرانيا نتيجة التداخلات الاقتصادية المتشابكة بينهما في إطار الحرب الهادئة. وبالأخير يدفع المواطن الفاتورة. وفي النهاية, أظن أنه من المنطقي أن نطرح عددا من الأسئلة المشروعة التي تفرض نفسها, تتعلق بنا من عينة:أين نحن من الحرب الهادئة؟ أو أين الحرب الهادئة منا؟ وما تأثيرها علينا ونحن في لحظة تحول حرجة؟ نحاول الإجابة في مقالنا القادم.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern