الحرب الهادئة‏..‏ معادلة التعاون والصراع

تشهد منظومة العلاقات الدولية تغيرات حادة‏,‏ لكنها تتم بهدوء ونعومة‏,‏ حيث تنتقل فيها هذه المنظومة من هيمنة القوة العظمي المطلقة أو العالم أحادي القطبية‏,‏ بحسب شارلز كراوثامر‏,‏ إلي ما يمكن تسميته بقيادة القوة المزدوجة‏;‏ أو القيادة الثنائية لكل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية‏.‏

إنها المرحلة الصينو- أمريكية, وهي مرحلة مركبة ولها تداعياتها علي كل بلدان العالم, ولها تجليات أخري في إطار علاقات ثنائية أخري علي أكثر من صعيد, كيف ولماذا؟ للإجابة نعرض للنقاط التالية:
النقطة الأولي: لابد من تأكيد أن هذه القيادة الثنائية للعالم بين أمريكا والصين, لا تعني تناغما/انسجاما مطلقا بينهما, وإنما علي العكس تماما تتم في إطار حرب هادئة بينهما, وهو التعبير الذي أطلقه اخيرا نوح فيلدمان(أستاذ القانون الدولي بجامعة هارفارد, في كتاب يحمل نفس الاسم ـ2013), علي علاقة القوة المزدوجة بينهما في سياق المرحلة الجديدة التي تمر بها منظومة العلاقات الدولية. وهي تختلف كليا عن الحرب الباردة التي دارت بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا, التي انطلقت عقب الحرب العالمية الثانية مع تقسيم العالم إلي كتلتين رئيسيتين. لقد كانت الحرب الباردة تتم بين قوتين عالميتين متناقضتين:إحداهما يمينية/ غربية, والأخري يسارية/ شرقية, وكان المسرح الدولي ساحة حرب مفتوحة بين المعسكرين, بينما الحرب الهادئة فإنها تدمج وتشبك من جانب,وتفكك من جانب آخر بين التوافق الاقتصادي المتبادل والصراع التقليدي من أجل القوة.


إنها علاقة تقوم علي الجدل المعقد: صراع وتنافس من جانب, وتعاون وتوافق من جانب, شراكة اقتصادية عملاقة ما يعني تنسيقا وتوافقا من جهة, ودأبا علي الهيمنة من جهة أخري, وهي حالة عرفها التاريخ بشكل تقريبي, ذلك عندما بدأت روما القديمة تواجه قرطاج الصاعدة, وبريطانيا العظمي تقابل تحدي ألمانيا البازغة قبل الحرب العالمية الأولي. لذا أصبحت هذه العلاقة بين الكبيرين الصيني الأمريكي( الجي2/G2) هي الأهم من مجموعة الثماني الكبار والعشرين الكبار. وهو ما دفع أن تسود الحرب الهادئة منظومة العلاقات الدولية, ليس فقط علي مستوي قمتها وإنما تمتد إلي كل مستوياتها, كيف؟ هذا ما ينقلنا إلي النقطة الثانية.


النقطة الثانية: المتابع للعلاقات الدولية المختلفة في وقتنا الراهن سوف يجد هذه الحرب الهادئة تتكرر بدرجة أو أخري: بين أمريكا وروسيا, وبين أمريكا والاتحاد الأوروبي, وبين روسيا والاتحاد الأوروبي..الخ. إنها نوع من العلاقات المعقدة والمتناقضة في آن واحد. علاقة معقدة لأنها تقوم علي التناقض بامتيازـ بما يمكن أن نطلق عليها: علاقة التعاون التنافسي أو الصراع التشاركي.

والسؤال إلي اي مدي يمكن أن تأخذنا هذه الحرب, وتصل بمستقبل العالم وقدرة مكوناته علي التعايش والتقدم. إنه السؤال الصعب, خاصة أننا لا نزال كبلدان جنوب ندفع الثمن, دفعناه وقت الحرب الباردة وقت كنا ساحات للصراع, ولابد من الانحياز إما غربا/يمينا أو شرقا/ يسارا. وكان لابد من غالب أو مغلوب بين القطبين. وندفعه وقت الحرب الهادئة عندما بتنا موضوعا للتنافس يمكن أن تتفق القوة المزدوجة عليه في مستوي من مستوياته إذا ما فرضت المصلحة ذلك, وهذا هو الاختلاف الجوهري ومربط الفرس في طبيعة الحرب الجديدة الهادئة.

ونصل هنا إلي نقطتنا الثالثة. النقطة الثالثة: لأن الحرب الهادئة تتدرج من الاثنين الكبار ثم الـ8 الكبار والـ20 الكبار ثم التحالفات العابرة للقارات مثل مجموعة البريكس, فإن الدول أصبح موضوعها دولا مثل دول. فما شاهدناه مبكرا حول السودان بين أمريكا والصين ـ ولم نتنبه إليه ـ كان أحد تجليات الحرب الهادئة, حيث التقاسم الاقتصادي كان علي أشده, وفي نفس الوقت كان الصراع السياسي حوله في ذروته. وأيضا يمكن أنه نضع الصراع حول سوريا في هذا السياق وإن كان تم بين أمريكا وروسيا. كما أنه يمكن ان نضع الصراع حول أوكرانيا ـ الآن, بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأوراسي أو روسيا الجديدة القادمة في هذا السياق, أنه نوع من الحرب الهادئة التي تتم فيها توافقات وتوزيع للمغانم في ظل صراعات لا تصل إلي حد الحروب المباشرة وإنما ربما تكون بالتفويض. وخطورتها أن دولا مثل دولنا لا تزال تناضل من أجل التغيير سوف تدفع الثمن لأنها سوف تكون محل تقاسم دائم. وفي هذا نحيل إلي النموذج الأوكراني والذي يمكن أن نعود إليه لاحقا.
الخلاصة, إنها الحرب الهادئة التي لا تهدف أن تحقق صداما محتوما أو تعاونا مثاليا; وهو أمر أظنه يحتاج إلي الكثير من الحوار خاصة في حالتنا التي ابتعدنا فيها عن إدراك جديد للعالم وتطوراته.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern