الحرب الهادئة وحاجتنا لاستجابة مبدعة

تحولات كبري تشهدها منظومة العلاقات الدولية‏,‏ بشكل عام‏,‏ والمنطقة العربية أو الشرق الأوسط بشكل خاص‏.‏ تحولات تتم بفعل الحرب الهادئة وهو المفهوم المستحدث أخيرا لوصف راهن العلاقات الدولية‏,‏ والذي عنينا بتقديمه للقارئ المصري المتخصص والمعني بالشأن الدولي بشكل عام علي مدي المقالين السابقين‏.‏

فلقد حرصنا علي الإشارة إلي أن النظام الدولي الراهن تجاوز المرحلة التي كانت فيها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي هما قطبي العالم, كما تجاوزت مرحلة هيمنة القطب الواحد الأمريكي بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي والتي تم فيها التسويق لمفهوم الإمبراطورية الأمريكية التي تستفرد بالعالم وحدها إلي مرحلة جديدة تتيح الشراكة بين الأقوياء ولكن لا تمنع التنافس بينهم في الوقت نفسه, وهي المرحلة التي بات يطلق عليها مرحلة الحرب الهادئة. والحرب الهادئة في كلمات مركزة تعني:التعاون الاقتصادي الشامل, والتنافس الحاد في مجال الجغرافيا السياسية. هي حرب تختلف في درجتها ونوعيتها عن الحرب الباردة. فالباردة كانت تدار من قبل قطبين متناقضين, والدول إما ان تكون تابعة لهذا القطب أو ذاك.

أما الحرب الهادئة فهي حرب تسمح بالشراكة الاقتصادية بين المتناقضين, لكن لا يمنع ذلك من أن تكون هناك خصومة في مجال الاستراتيجية الجيوبوليتيكية. وذروة الحرب الهادئة هو نموذج ما أطلقت عليه القوة المزدوجة, والذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية والصين. ثم نجد هذا النموذج متكررا بشكل متتال بين: روسيا والصين, وبين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية, ثم بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأوراسي, وبين المجموعات الاقتصادية المتنوعة معا.


في هذا السياق قدمنا نموذج أوكرانيا فمسموح لها أن تأمل في تحسين أوضاعها الاقتصادية وعليه لابأس أن تتجه إلي أوروبا وإلي الصين وإلي روسيا في آن واحد, بيد أن ما حسم الأمر هو الجغرافيا السياسية أي أن تبقي أوكرانيا في إطار المجال الحيوي الروسي ومن ثم رسا المزاد في النهاية علي القوة الروسية القادمة, أخذا في الاعتبار وجود شبكات مصالح في الداخل انحازت للعرض الروسي. تم هذا في إطار هادئ دون تلويح باستخدام العنف كما كان الحال وقت الحرب الباردة, خاصة أن القوة الروسية ربما تعوض أوروبا في نطاق آخر. بلغة أخري الحرب الهادئة تعمل من خلال إيجاد المصالح الاقتصادية المشتركة علي تقليل/تخفيف نبض المواجهات العسكرية من جهة, واستئثار قوة ما بالهيمنة من جهة أخري.


في ضوء ما سبق, نحن أمام واقع جديد لابد من فهمه وابتكار رؤية وسياسة تعظم الاستفادة من سياق الحرب الهادئة. فنحن قطعا لسنا وقت الحرب الباردة, ومن ثم فإن الحديث عن اللجوء إلي قطب من الأقطاب لمواجهة القطب الآخر, أو الاصرار علي أن99% من أوراق اللعبة في يد أحد الأقطاب, أو التركيز علي محور فرنسا/ ألمانيا/ إيطاليا الذي كان سائدا لثلاثين عاما, كلها صيغ تم تجاوزها في وقتنا الراهن, حيث علينا التعامل مع كل القوي والأقطاب في الوقت نفسه وتعظيم الاستفادة من هذه العلاقات في تحقيق المصالح الوطنية العليا. ويؤكد ما نقول المشهد السياسي الذي أصبح لدي البعض ممن لازالوا يفكرون بمعايير قديمة كيف أنه في اللحظة نفسها التي تم فيها نزع الأسلحة الكيماوية في سوريا تم التوصل إلي صفقة أمريكية إيرانية تحت رعاية مجموعة5+1( الخمسة الكبار بالإضافة الي ألمانيا) بعد قطيعة تقترب من35 سنة, وفي الوقت نفسه تم جعل عنوان مؤتمر جنيف هو مقاومة الإرهاب. ولأول مرة نجد خلافا غير خاف بين إسرائيل وأمريكا, كذلك تواصل إماراتي إيراني علي أعلي المستويات. كل هذا علي خلفية عودة الكبار إلي مسرح العمليات العربي معا, أي روسيا وأمريكا معا, بل والصين وأوروبا. بلغة أخري انتهي زمن استئثار امريكا ومن خلفها إسرائيل بمنصة هذا المسرح.


تحولات كبري كما قلت في البداية. تحتاج إلي استجابات مبدعة غير نمطية. تبدأ بفهم ما جري في الداخل الأمريكي وما طاله من تغيرات أقول عنها مركبة منذ تولي أوباما, وفهم الصعود الصيني وتحركاته القارية المختلفة, ومشروع روسيا الإمبراطورية, ومواقف أوروبا القارة المخضرمة الراهنة. وكيف يمكن التواصل مع ميكانيزمات الحرب الهادئة وبخاصة في بعدها الاقتصادي. وكيف يمكن الاستفادة من مساحات الحركة التي وفرتها الحرب الهادئة في إطار التعاون الاقتصادي بالرغم من التنافس الجيوسياسي. بيد أن تعظيم الفائدة لن يتم إلا بتعاظم الذات الوطنية أي برفع قدراتنا وقوانا الذاتية في إطار مشروع وطني يضعنا في الموقع الصحيح. وأظن أنه ليس مخطئا من قال إن اللحظة الدولية الراهنة ربما تجدد النزعة القومية والوطنية لدول العالم.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern