في سبتمبر الماضي، احتفلت دورية الإيكونوميست بمرور 175 عاما على إصدارها الأول الذي عرف طريقه إلى القراء في لندن وأوروبا عام 1843...كانت أوروبا ــ آنذاك ــ تعاني من توابع ثورية تتناثر في أنحاء أوروبا بفعل الزلزال التاريخي للثورة الفرنسية...صدر العدد التذكاري بغلاف أرضيته حمراء بالكامل وفي الوسط تماما تشكيل متداخل بين عام الإصدار وعام الاحتفال 2018. ويأتي من تحته عنوان رئيسي للعدد هو: ’’مانيفستو
لتجديد النزعة الليبرالية‘‘ “A manifesto for renewing liberalism”؛...
لفت نظري ما جاء في الافتتاحية وملف العدد للتمييز بين الليبرالية التاريخية وبين الليبرالية التي تشهدها أوروبا الراهنة. وأن اليمين الجديد لا يعد امتدادا لليمين التاريخي. كما يمثل خطرا حقيقيا على مستقبل الليبرالية والنزعة الليبرالية. وأنه لا ينبغي الاصطفاف بين الليبراليين والمحافظين والقوميين والشعبويين والفاشيين،...،إلخ، في معسكر واحد. أو ما وصفناه في مقالنا السابق "اليمين الأوروبي الجديد". وعليه أتت دعوة الإيكونوميست في ذكرى صدورها ال175 إلى إعادة اختراع النزعة الليبرالية من أجل القرن الواحد والعشرين.
تنطلق دعوة الإيكونوميست من أن قوة الفكرة الليبرالية لم تزل صالحة لإحداث التغيير المجتمعي المطلوب. فالليبراليون الحقيقيون يناضلون من أجل التغيير التدريجي للمجتمعات للأفضل ومن أسفل إلى أعلى. وأنهم يختلفون جوهريا عن الثوريين والمحافظين والفاشيين والقوميين وذلك في الآتي: أولا: بالنسبة للثوريين؛ من حيث رفضهم فرض أية قناعات على حرية الأفراد بشكل قسري. ثانيا: بالنسبة للمحافظين في رؤيتهم التي تبرر للقوى التي تتمركز في أيديها القوة والثروة في أنهم، بالحقيقة، يكونون مصدرا لقهر الأغلبية. ثالثا: بالنسبة للفاشيين والقوميين المتطرفين في أنهم يقصون المخالفين وغير المتماثلين ولا يعنون بما يعرف بالاحترام المدني Civic Respect؛...
يضاف إلى ما سبق وعي مانيفستو تجديد النزعة الليبرالية إلى ضرورة تحريرها من اختطاف النخبة لها. ما يولد ردة فعل شعبية لسببين هما: أولا: احتكار النخبة للنزعة الليبرالية التي من حق أي مواطن أن يعتنقها ويمارسها بغض النظر عن مكانته وطبقته وثروته وسلطته. وذلك بصفتها تحمل مجموعة من القيم ــ من المفترض ــ أنها تصلح لجميع الأفراد/المواطنين. خاصة وأن الليبرالية في تعريفها الأولي تعني ميلاد الفرد الحر. ثانيا: فشل، وربما عدم رغبة، من يدعون الليبرالية من النخبة في حل مشاكل المواطنين العاديين بسب التعالي عليهم أو أنهم لا يستحقون أو ينبغي الاكتفاء بما يحصلون عليه...ومن ثم على الليبراليين ممن يؤمنون بالنزعة الليبرالية في جوهرها الحقيقي أن يقاربوا التحديات الراهنة بجدية وحماسة بهدف امتداد مظلة الحرية والرخاء على الجميع. ما يعني ضرورة تأسيس عقد اجتماعي جديد يأخذ في الاعتبار التحولات الجذرية ــ وربما الأدق أن نقول الزلازل التاريخية التي مست الشموليات الثقافية في 1968، والسياسية في 1989، والاقتصادية في 2008 ــ في العقود الخمسة الأخيرة وأطلقت الحركية المجتمعية الجديدة في أوروبا ذات النزعة المواطنية. كذلك أطلقت جيلا شابا جديدا هو جيل الألفية الذي لديه رؤية للعالم يطالب بها مغايرة كليا لرؤى الأجيال السابقة...
إن النزعة الليبرالية في القرن الواحد والعشرين؛ عليها أن تجدد روح النقد للذات وللتاريخ وللعالم والمجتمع. وأن تقف بحسم حيال تشويه النزعة الليبرالية تحت أي مسمى أو ادعاء قومي أو إثني أو شعبوي أو فوضوي أو فاشي أو أي تحالف عريض بينهم فيما أطلقنا عليه "اليمين الجديد" "الأقصى" أي اليمين في أعلى مراحل التشدد والتطرف والغلو والإقصاء والكراهية والذي نجح في استقطاب العديد من الليبراليين. ومن أجل اكتساب المزيد من الشرعية يقوم برفع شعارات منحازة للفقراء وكأنه يختطف جمهور اليسار التاريخي إلى خندقه.
وفي هذا السياق، يأتي تحالف "الليبراليين الديمقراطيين من أجل أوروبا" الذي يضم العديد من الأحزاب في عديد من دول أوروبا، والذي خاض انتخابات البرلمان الأوروبي مؤخرا، وكان حاضرا بقوة في فاعلياتها، ليكون ممثلا للنزعة الليبرالية الجديدة، المختلفة كليا عن كل من: أولا: يمين الوسط التاريخي الذي تمثل في أحزاب ما بعد الحرب العالمية الثانية(الديمقراطي الاجتماعي والديمقراطي المسيحي) الذي بات يعد فاشلا لدى قطاعات عريضة من الكثرة المواطنية. وثانيا: اليمين الجديد "الأقصى"( اليمين المتشدد المتواصل مع التيار الفاشي والتيار القومي المتطرف). واستطاع أن يقدم نفسه كبديل ليمين الوسط التاريخي وأن يحول دون التمدد النسبي لليمين الجديد الأقصى بالرغم من كل التوقعات التي كانت تشير إلى تقدمه على حساب أنصار النزعة الليبرالية الجدد...والأهم أن هذا التحالف الليبرالي الديمقراطي سوف نجده يلتقي في كثير من المواقف مع القوى الجديدة الصاعدة مثل: الخضراء، واليسارية الجديدة، والقومية دون استعلاء، والمستقلين، والحركات القاعدية البازغة يمينية ويسارية على السواء...
إن أنصار النزعة الليبرالية يختلفون عن اليمين الأقصى الأوروبي الجديد سواء في حالتيه المنفردة او المتحالفة مع القوى القومية والإثنية والفاشية. فهي نزعة تستمد شرعيتها من قيم الثورة الفرنسية: الحرية، المساواة، والإخاء. كذلك هي أكثر اتساقا مع جوهر الفكرة الليبرالية في احترام رؤى الآخرين. وأقرب إلى مقاومة اللامساواة المتفاقمة. ومن ثم انخراطا مع النزعة المواطنية. وسيبقى السؤال هل تظل وفية لقيم النزعة الليبرالية دون أن تخونها لصالح المزايا النخبوية...ونلقي الضوء في مقالنا القادم على الحركة الشعبوية...