يجتاح أوروبا في العقدينالأخيرين تيارا يمينيا بات فاعلا ومؤثرا في المجال العام: السياسي والمدني، بأحزابه وحركاته. شأنه شأن باقي التيارات التي تشكل الحركية المجتمعية الجديدة: يسارية، وخضراء، وحقوقية، ومطالبية، وفئوية في أوروبا يدفعهم جميعا على اختلافاتهم "نزعة مواطنية" ساعية للعدالة والحرية والحياة الكريمة التي ترى أن مؤسسات ونخب وسياسات ما بعد الحرب العالمية الثانية قد فشلت في انجازها...وفي هذا السياق، عرضنا لتياري حركة الخضر ولليسار ما بعد الجديد في أوروبا من خلال سلسلة مقالات "المواطنيزم" أو "السيتيزينيزم"...
وعن اليمين الأوروبي الجديد نقول بداية أن توجهه الراهن أعقد من حصره في بعد واحد: أولا: أيديولوجي: ليبرالي، أو محافظ، أو محافظ جديد، أو إصلاحي،... ثانيا: اثني: قومي، أو شوفيني، أو عرقي، أو ديني، أو لوني، أو جهوي،...
ثالثا: حركي: شعبوي، أو متشدد، أو متطرف، أو فاشي،...كما أن قاعدته الاجتماعية يصعب حصرها في طبقة بعينها. ذلك لأنه استطاع أن يستقطب مستويات طبقية مختلفة، وشرائح متنوعة من التيار الرئيسي للقاعدة الجماهيرية في كثير من دول أوروبا إلى توجهاته التي تتقاطع وتتماهى مع بعض مما تدعو له باقي تيارات النزعة المواطنية والتي تتناقض كليا مع ما تدعو له الأحزاب التقليدية التاريخية. ما أدى إلى "خلخلة" التركيبة السياسية الأوروبية المستقرة منذ عقود فيما بات يُعرف في الأدبيات "بالزلزال السياسي".
وهو ما دفع الكثير من الباحثين إلى استخدام تعبير "اليمين الأقصى" “Far Right”؛ لوصف، هذا، اليمين الأوروبي الجديد. الذي يعده البعض "حالة يمينية مكثفة" يلتقي فيها "يمين النخبة مع يمين الجماهير".(راجع صعود اليمين الأقصى في أوروبا: التحول الشعبوي ــ 2016)...نخبة يمينية تعاني الإقصاء من اليمين التاريخي الحاكم فعملت على تعبئة المواطنين على المستوى القاعدي كي يلتفوا حول مطالب ذات بعد اجتماعي. وفي هذا تم توظيف الثقافة في بعديها القومي والعرقي لصالح الاقتصاد والسياسة...كيف؟
فلقد شهد الواقع كيف أنه تحت مظلة الخصوصية تبنى اليمين الجديد سياسة الدفاع عن الهوية القومية والفرادة الوطنية في مواجهة ذوي الهويات الثقافية الوافدة لسببين هما: الأول: منافسة هؤلاء الوافدين في سوق العمل للمواطنين من أهل البلد. والجور على حقوقهم المواطنية. وإن لا يمنع هذا من تبنيها لسياسات اقتصاد الليبرالية الجديدة. وثانيا: الصدام المتوقع بين الهوية الوطنية والهوية/الهويات الوافدة.وهنا يستجيب ــ في واقع الأمر ــ اليمين الجديد لتطلعات النخبة والجماهير على السواء. بهذا المعنى يمكن أن يلتقي اليمين الجديد، من جهة، مع مطالب اليسار في تحقيق جانبا من العدالة مع الطبقات الوسطى والدنيا وليس العدالة في صورتها الشاملة لأنه في واقع الأمر يرفض هذا التيار رفضا باتا فكرة المراجعة الضرورية للسياسات التوزيعية. كذلك، ومن جهة أخرى، يتوافق مع رغبات النخب في الحفاظ على النقاء الأوروبي. وفي المحصلة، ينجح اليمين الجديد في التعبير عن "الغضب المجتمعي العام" حيال الإخفاقات المتنوعة للحكومات المتعاقبة على مدى عقود.
ويشير مارك لازار، مدير مركز التاريخ في معهد العلوم السياسية الفرنسي، إلى أن النجاح اللافت في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في كل من "بولندا(حزب القانون والعدالة)، والمجر(حركة من اجل المجر وحزب الوحدة المدنية)، والنمسا (حزب الحرية) وإيطاليا(حزب رابطة الشمال وحركة الخمس نجوم)،وفرنسا(حزب الجبهة الوطنية)، وألمانيا(حزب البديل من أجل ألمانيا)، وهولندا(حزب الحرية)، وإيرلندا(حزب شين فين)،...،إلخ...
إنما يعبر عن فشل اليمين التقليدي التاريخي عن الاستجابة للتغيرات المتلاحقة. ومن ثم سوف تظل التيارات الجديدة ومن ضمنها اليمين الجديد، حاضرة "لا تتوقف عن التطور والتكيف مع الانتظارات والترقبات والآمال المُفترضة للمواطنين(الناخبين)"؛ الذين تعمل بدأب على اكتسابهم وحشدهم للمشاركة السياسية وهو ما تجلى بوضوح في الانتخابات الأوربية الأخيرة في أكثر من دولة من جهة. ومن جهة أخرى في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة.
الخلاصة، يمكن اعتبار اليمين الأوروبي الجديد هو "درجة عليا وقصوى من يمين مجتمعي جديد متشابك المصالح". ويذهب البعض إلى أنه يمكن اعتباره "يمينا مغايرا لليمين القديم"، ولكن لا يعني أنه أفضل. حيث يجمع الكثيرون بأنه يمثل "تهديدا للديمقراطية الليبرالية التاريخية" النخبوية.(راجع أحد المصادر الصادرة مؤخرا: المفكرون الأساسيون لليمين الراديكالي ـــ 2019).كذلك تعتبر افتتاحية الإيكونوميست (6 يوليو الماضي) أن "اليمين الجديد لا يعد تطورا لليمين المحافظ التاريخي. وتعتبره منبت الصلة به كليا"...والأهم أنه يمثل خطورة حقيقية على مستقبل الليبرالية بمعناها الفلسفي العميق. بالرغم من أن تيار اليمين الجديد يجد هوى لدى قطاعات عريضة من المواطنين وجدت فيه وسيلة للخلاص من التواطؤات التي دأبت على ممارستها شبكات المصالح تاريخيا. نعم تصب حركة اليمين الجديد لصالح المواطنين. ما يجعلها مع غيرها من تيارات جديدة صاعدة تمثل حركية مواطنية جديدة. إلا أنها في واقع الأمر على خلاف باقي التيارات اليسارية والخضراء والحقوقية لا يمكنها من أن تتبنى حلولا جذرية في المسألتين الاقتصادية والاجتماعية أو تضغط في اتجاه توازن حقيقي بين القوى المجتمعية.لذا ليس غريبا أن اليمين الجديد يواجه يمينا بازغا أكثر ليبرالية من خارج المنظومة السياسية التقليدية استطاع في الواقع العملي أن يحظى بثقة الناخبين في انتخابات البرلمان الأوروبي الشهر الماضي.ومن ثم التطويق النسبي للحركية السياسية لليمين الجديد الذي لم تزل أفكاره تنشط من خلال جيل جديد من المفكرين نقارب أفكارهم في مقالنا القادم...