’’إنها لحظة مواجهة للزيف وللمستقر الزائف‘‘، عبارة يمكن أن تجسد الحركية المجتمعية في أوروبا وابداعاتها الفكرية الجديدة الراهنة...
ففي ذروة الضوضاء الإعلامية عن المد الشعبوي في أوروبي وقرب سيطرته على مقاليد الحكم الأوروبي. طالعتنا نفس الماكينة الإعلامية في ابريل الماضي بعودة الاشتراكيين الديمقراطيين في فنلندا إلى السلطة بعد غياب 20 عاماعلى حساب اليمين المتشدد...
ولحقت الدانمرك بفنلندا بفوز تحالف اليسار بقيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطيبالانتخابات العامة التي أجريت مطلع هذا الشهر بأغلبية 91 مقعدا من أصل 179، بعد ابتعاد عن الحكم لمدة 14 عاما. وجاء انتصاره على حساب حزب الشعب اليميني المتشدد الذي خسر أكثر من نصف مقاعده التي كان يحظى بها في انتخابات2015. وبينهما فاز حزب العمال الهولندي بالانتخابات البرلمانية...ونذكر بصعود كتلة أحزاب الخضر وحضورها اللافت على خريطة القوى السياسية الأوروبية (راجع مقالينا الأخيرين).
وحول ما سبق، يعلق أحد المعلقين السياسيين بأن ما يجري في أوروبا "يتجاوز المداورة السياسية بين اليمين واليسار التي حققاها في عقود سابقة". ذلك لأن "القوى التقليدية من يسار ويمين (يمين الوسط ويسار الوسط) اللتينحكمتا دول أوروبا(خاصة غربها وشمالها ووسطها فجنوبها) تراجعت لصالح يمين ويسار جديدين". وهو ما تجلى في الانتخابات الألمانية والسويدية في العام الماضي. ومؤخرا في الانتخابات البرلمانية الأوروبية وقد تناولناها في حينها (راجع ما كتبناه في هذا الشأن مطلع مايو الماضي).وفي انتظار الانتخابات في: اليونان، والنمسا، وغيرهما...
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هو ما الجديد الذي يطرحه اليسار الصاعد في أوروبا؟
يجيب عن هذا السؤال أحد الأكاديميين بجامعة "مالمو" السويدية بأن أوروبا تشهد بزوغا لما أطلق عليه ’’اليسار الإنساني‘‘ “Humanitarian Left”؛(مجلة الجارديان الأسبوعية 14/6 الماضي)حيث عني هذا التيار في برنامجه بضرورة تجديد مفهوم "دولة الرفاه" بما يتناسب مع المستجدات التي لحقت بالمجتمعات الأوروبية خاصة بعد الأزمة المالية الأسوأ في تاريخ الرأسمالية. والآثار السلبية التي تداعت على حياة المواطنين اليومية بفعل سياسات "التقشف". و"السوقنة" الفجة للخدمات والاحتياجات الأساسية اللازمة للعمل والكتل المواطنية من العاملين على اختلاف أنواعهم. بما يضمن العدالة والعناية لكل مواطن/انسان دون تمييز. ما يعني مراجعة نظم: التأمين الصحي، والعمل، والدخل، والحماية الاجتماعية خاصة للعمالة المؤقتة والعاطلين خصوصا، وفي العموم للفقراء الجدد، وللمهمشين والمنبوذين وابتكار أنظمة "تمكينية" لهم، والتأمين الاجتماعي، والعملية الانتاجية بتفاصيلها المتنوعة، ومواجهة الآثار المتوقعة للثورة الصناعية الرابعة،...،إلخ، في إطار إعادة صياغة جديدة للرأسمالية في علاقتها بالشرائح الاجتماعية المختلفة من جهة. وبالمجتمع من جهة أخرى. بما يحقق في المحصلة: العدالة المواطنية والعناية الإنسانية.
وعليه، عمل اليسار الجديد الإنساني على الآتي: أولا: استرداد طبقات اجتماعية تنتمي له موضوعيا وتاريخيا مثل الطبقة العاملة، اختطفها اليمين المتشدد تحت دعوى حمايتها من الوافدين الذين ينافسونها على العمل دون أن يتطرق إلى ما هو أبعد من ذلك أقصد تطوير علاقات العمل وأنظمتها. ثانيا: عدم اكتفاء اليسار الجديد: "الإنساني"، بالطبقة العاملة وإنما بذل الجهد في توسيع القاعدة الاجتماعية لهذا اليسار "الجديد".
إنها مهام كبرى يتم السعي لتحقيقها من خلال العملية الانتخابية هدفها الأسمى يتجاوز حسابات الربح والخسارة للسلطة إلى التأسيس "لعقد اجتماعي جديد" و"نظام اجتماعي جديد" يتناسب وأوروبا ما بعد الصناعية، أي الرقمية(راجع دولة الرفاه في ثلاثة عصور ـت 2014)...وفي نفس الوقت يعالج التشوهات التي اصابت أوروبا علاجا جذريا على مدى عقود سابقة بفعل الهيمنة الرأسمالية والشمولية الاشتراكية على السواء...
في هذا المقام، يطرح أحد أهم منظري اليسار ما بعد الجديد والأكثر شهرة وقبولا لدى قطاعات الشباب المنخرط في الحركات والأحزاب المواطنية، الفيلسوف السلوفيني "سلافويجيجيك" (1949 ــ )، فكرة تقول: "بأن التقدم إلى المستقبل يحتاج إلى ’’البدء من البداية‘‘...إنها مرحلة المراجعة النقدية الشاملة التي تقوم على: إدراك المستجدات، والتحرر من الأفكار المستقرة التي يثبت زيفها مع مرور الوقت، فيما يتعلق بالعملية الانتاجية وأطرافها، وجديد الخريطة الطبقية، ودور المؤسسات المالية والشركات وعلاقاتها المتشعبة، وإعادة النظر في المصطلحات المفاهيم، وغربلة الأفكار،...،إلخ. والتصدي للأفكار، والمؤسسات والنخب والسياسات القديمة.
وفي سلسلة هامة عنوانها: "الحراك"، تصدرها دار نشر "روتلدج"، صدر كتاب: "حركات اليسار في أوروبا"(2018)، لمجموعة من الباحثين المعتبرين يتتبعون فيه حركات وأحزاب اليسار في عموم أوروبا، شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، يؤكدون فيه تمايزها عن اليسار القديم والجديد على السواء. فمن خلال طرحهم لسؤال "ماذا يعني أن يكون المواطن يساريا اليوم؟؛ خلصوا إلى ما يلي: أولا: بلوغ المواطنة الحقيقية ينطلق بداية من احترام قيمة الإنسان في ذاته وليس: أولا: لصفته أو تراتبيته المؤسسية (أو الحزبية)، وثانيا: للفكرة السياسية المطلقة (أو الأيديولوجية). أي يصبح الحزب والأيديولوجيا في خدمة الإنسان في نضاله من أجل أن يكون مواطنا، وليس العكس. ثانيا: بلوغ العدالة يستدعي توسيع نطاق التحالفات المجتمعية لما هو أكثر من اقتصار اليسار على الطبقة العاملة فقط أو الشرائح الوسطى المهنية...ثالثا: تعميق الديمقراطية التشاركية التي تتجاوز التمثيل البرلماني بمعناه الضيق. ما يضمن حضورا مواطنيا واسعا...نتابع حديثنا عن اليسار ما بعد الجديد في أوروبا أفكاره وخريطته...