ما يجرى فى أوروبا هو لحظة تحول كبري. تختلف عما سبقها من تحولات فى أنها تنطلق من أسفل من خلال حراك مواطنى واسع النطاق، يتم تحت لافتات عديدة. ولكن هناك ما يجمعهم, بالرغم من الاختلاف, ألا وهو تحقيق الحياة الانسانية الكريمة الشاملة: الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية والثقافية...إنها النزعة المواطنية الجديدة.
ويمكن القول أن النزعة المواطنية الجديدة تحمل تطويرا جديا للنزعة الإنسانية التى عنيت ــ تاريخيا ــ بقيمة إعلاء لكل ما هو إنساني, بتنويعاتها التى عرفها الانسان عبر التاريخ مثل: النزعة الإنسانية المدنية للدول, المدن فى إيطاليا فى القرن الخامس عشر، والنزعة الإنسانية البروتستانتية الشمال أوروبية فى القرن السادس عشر، والنزعة الإنسانية العقلانية التى شهدت ثورات الحداثة المستنيرة، والنزعات الرومانسية والوضعية التى ساعدت البورجوازيات الأوروبية على فرض هيمنتها على أوروبا، والنزعة الثورية التى هزت العالم، والنزعة الإنسانية الليبرالية التى سعت لترويضه، والنزعة الإنسانية الشمولية، والنزعة الانسانية لضحايا الشمولية، والنزعة الإنسانية للفئات التى أهملها العقل الغربي،...،إلخ...ذلك لأن ما سبق من تجليات حول النزعة الإنسانية كان يتسم بأمرين هما: الأول: أنه منتج فلسفى أو عقلي. الثاني: أنه يعبر عن مصلحة ما.
لذا جاءت النزعة ما بعد الإنسانية لتتجاوز ما سبق وتمثل ذلك فيما يلى: أولا: نقل المفهوم من الفلسفى/العقلى إلى ما هو مدنى/عملى. ثانيا: تحريره من الهيمنة. هيمنة: الفرد، الطبقة، المؤسسات الاقتصادية والدينية، والثقافية، ومناهج التاريخ الموجهة،...،إلخ. وفى مصدر حديث عنوانه: «ما بعد النزعة الإنسانية» «اصدار 2014 فى سلسلة مهمة بعنوان: الأدب والثقافة فى القرن 21»، نجد النص يؤكد ضرورة عدم الاكتفاء بتقدير الإنسان باعتباره مركزا للكون فقط، وإنما الأخذ فى الاعتبار ما يلى: أولا: قدرة الإنسان على أن يعبر عن مفردات ثقافته بغير خوف أو حصار. ثانيا: علاقات القوة التى ينخرط فيها الإنسان. ثالثا: الخطابات الثقافية والإعلامية والدينية التى توجه الإنسان ــ قسرا ــ فى حياته من جهة وتهيمن عليه من جهة أخرى. رابعا: ما هى حدود قدرة الإنسان على نقد ما يضره ويعوقه عن الإبداع وطرح البديل/البدائل، واكتشاف الجديد، والانخراط فى الزمن الرقمي، ورفض حصار الإرادة الإنسانية، وإضعاف فرصة الإنسان على اكتشاف سبل جديدة للحياة الإنسانية بعيدا عن قيم السوق، وتسليع كل شىء،...،إلخ. خامسا: الحق فى حياة كريمة آمنة وعادلة. أى وبلغة أخري، ممارسة الإنسان لتفرده فى زمن تؤمن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تشكيل عوالم مستقلة لهذا التفرد فى التعليم، والمتعة، والثقافة، والتعبير الحر،...وعليه، لابد من القبول بالإنسان، اى إنسان؛ فى العالم/الزمن الجديد... ومن ثم لا مجال للتهميش، أو التقليل، أو الإقصاء، لأى إنسان...
والأدق أن نطلق على ما سبق النزعة ما بعد الإنسانية، أو بحسب اجتهاد معتبر فى كتاب: المشروع التحررى لما بعد النزعة الإنسانية «2018». ويرصد لنا الكتاب، الذى يعبر عن موجة أدبيات فى هذا الاتجاه، التحولات ــ المتعاقبة المتداخلةــ التى طرأت على المجتمعات الأوروبية المعاصرة برفض ومناهضة ومقاومة وتفكيك الأبويات والشموليات التالية: أولا: الجيلية فى ثورة 1968. وثانيا: البيروقراطية الحزبية السوفيتية المتضخمة فى 1989. وثالثا: الرأسمالية اللاإنسانية «راجع مقالنا الأول فى هذه السلسلة ــ 30 مارس الماضى». حيث حمل فيها المواطنون مزيجا من الخبرة والغضب والأمل فى إمكانية إحداث تغير بنيوى فى المجتمع الأوروبى يكسر الهيمنة التاريخية لمؤسسات ونخب وسياسات ما بعد الحرب العالمية الثانية، يحقق أولوية الإنسان. إلا أن الجديد فى هذا النزوع هو الإدراك الجمعى النخبوى الفكرى والسياسى الحركى أن النزعة الإنسانية ستظل دعوة قيمية وفكرية ما لم تأخذ فى الاعتبار إدراك البُنى المحركة للاقتصاد والمجتمع والسياسة والتاريخ. ما يعنى إعادة الاعتبار لفهم حقائق التاريخ وديناميكية العلاقات الطبقية وتشابكات المصالح الاقتصادية. انطلاقا من أن الإنسان لا يتحرك فى فضاء إنسانى مجرد من الأبنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والرقمية. وإنما يتحرك فى فضاءات متشابكة ومعقدة...ومن ثم بات هناك تماس بين الفرد بصفته إنسانا من جهة. وبصفته مواطنا من جهة أخرى.
فى هذا المقام، أتصور أن جوهر النزعة المواطنية الجديدة يقوم على أن مركز حركتها هو الإنسان ــ المواطن. وبهذا المعنى تتجاوز مركزية الإنسان بمعناها القيمى النخبوى القديم. إلى مركزية الإنسان ــ المواطن حيث الفكرة القيمية تكون قابلة من خلال الحركة القاعدية فى المجال العام بأبعاده المختلفة، لإحداث تغيرات تصب فى اتجاه الحياة الإنسانية ــ المواطنية الكريمة الشاملة. سواء تم ما سبق من خلال ما هو قائم من مؤسسات أو من خارجها..
إنه التغيير المركب ــ بحسب أحد المحللين للتحولات الأوروبية الراهنة ــ وفق قواعد جديدة تجمع بين المثل العليا الإنسانية والمطالب المجتمعية الحياتية المواطنية...والمتابع لكثير من الأحزاب والحركات البازغة فى أوروبا سوف يجد تراجع فكرة البرنامج السياسى بمعناه التقنى لمصلحة القيم الإنسانية والمطالب المجتمعية التى كانت تتجرأ عليها الليبرالية الجديدة ومصالح شبكات الامتيازات المغلقة لعقود. وتحاصرها آليات الهيمنة المتعددة. ما أدى إلى اللامساواة التاريخية ونبذ كتل مجتمعية عديدة. ودفع بحراك مواطنى غير مسبوق فى أوروبا يعلى من مركزية الإنسان ــ المواطن.