قلنا الأسبوع الماضى إن تقارير الحرية الدينية، التى كان يجب أن نعنى بها هى تقارير المرحلة الثانية التى صدرت بين سنتى 2000 و2005، لأنها هى التى روجت للمفاهيم، التى تلقفناها وحكمت إدارة أزماتنا الداخلية. أما تقارير المرحلة الثالثة، التى صدر آخرها 17 نوفمبر الماضى (تقرير الخارجية الأمريكية، وهو أحد تقريرين لابد أن يصدرا وفق القانون كل عام، والآخر عن لجنة الحرية الدينية)، فإنها رصدية بالأساس، وصارت تخضع للكثير من الحسابات الأمريكية الداخلية.
ويكفى أن نشير إلى أنها صدرت متأخرة شهرين عن موعدها المنصوص عليه فى القانون، وباتت أقل حدة عن ذى قبل كما سنرى، وإن ما يجب الانشغال به هو اللغم الذى زرعته تقارير المرحلة الثانية وأن نفتح حواراً داخلياً للكثير مما يثيره الرصد الوارد فى التقرير.
(1)
بداية نشرح، لماذا كان علينا أن ننتبه إلى تقارير المرحلة الثانية؟..لأنها نظرت إلى مصر باعتبارها دولة تتكون من «مجموعات دينية Religious Groups»، تنقسم مسيحيا إلى مجموعات مسيحية «Christian Groups»، وإسلاميا إلى مذاهب، وعليه تم إدراج الشيعة والقرآنيين والأحمديين.. كما استخدم التقرير تعبير الأقليات الدينية، وأدخل الأقليتين اليهودية والبهائية.
بالإضافة إلى المورمون وشهود يهوه، وهى الفكرة نفسها التى روج لها كرومر منذ 100سنة بأن مصر «جماعة دولية تتكون من مجموعات شتى من السكان لا تضمهم وحدة» أو تجانس، ومن ثم ليست دولة تقوم على المواطنة.
لقد سعد كل طرف بأن التقرير يدافع عنه، ناسياً أنه طالما قبل بهذا لنفسه فإن عليه أن يقبل به للآخرين، وما إن اتسع مجال الحديث عن المجموعات النوعية من المواطنين حتى ظهر تعارض المصالح ليس بين المختلفين دينيا، ولكن بين مذاهب الدين الواحد. من هنا كان اهتمام التقرير بتمرير الدفاع إشهار مذاهب جديدة، وهو أمر جدير بالانتباه، خاصة أنه يتسق مع المادة 107 من القانون الخاصة بحرية التبشير، الذى أظنه بات مفتوحا ليس فقط على المستوى المسيحى وإنما على المستوى الإسلامى أيضا.
(2)
ولأن القانون الأمريكى للحرية الدينية، الذى أطلقته جماعة دينية متشددة أمريكية (وكانت وراء اتفاق ماشاكوس الخاص بالسودان لاحقا) تحت مسمى «بيان إثارة الوعى» فى يناير 1996، ومع تزايد ضغط اليمين الأمريكى: الدينى والسياسى على الكونجرس بمجلسيه آنذاك، تمت الموافقة على القانون فى صورته الدينية بالرغم من أن هناك مشروعا اقترح للتخفيف من المرجعية الدينية للقانون، وإضفاء الصبغة المدنية عليه بعض الشىء (مقترح دون نيكلز)، والاستناد للمرجعية الدولية لا المرجعية الأمريكية دون غيرها..
إلا أن القانون أقر فى 1998، مؤكدا الصبغة الدينية، ومرجعية الخبرة الأمريكية فى الحرية الدينية.وهو ما يعكس سطوة التفاعلات الداخلية على تمرير القانون، التى ما إن تخفت بعض الشىء فى الداخل الأمريكى إلا وتنعكس على التقرير من حيث الاحتفاء بالتصريح الرسمى حول مدنية الدولة، وطرح كلام حول الزواج المختلط.
(3)
لذا فإن القارئ بعناية للتقرير الأخير يجده يميل إلى الرصد وتعقب الوقائع. مصدره فى ذلك ما ينشر فى الإعلام المصرى فى الأغلب والتقارير الحقوقية، التى يتم إصدارها فى الداخل. الأكثر من ذلك فإن التقرير بات يفرد مساحة لرصد التحسن والتطورات الإيجابية لاحترام الحرية الدينية:Improvements and Positive Developments in Respect for Religious Freedom، من قبل الرئيس والحكومة، واللافت أيضا أنه وبالرغم من إدراج مصر منذ 2004 فى قائمة الدول التى تقع تحت المراقبة Watch List، فإن التقرير الأخير لا يشير إلى هذا الأمر كما لم يلوح بأى عقوبات (هناك 15 عقوبة فى القانون). وفى هذا السياق لابد من الإشارة إلى أنه كيف لم يجهد أحد نفسه فى مقارنة التقرير الحالى بما سبقه؟.
أو دراسة بنية التقارير وفهم مفاتيحها ومفرداتها وتعريفها للاضطهاد مثلا؟. أو التصنيف الخماسى للدول الوارد فى القانون (أشرنا إلى كل ذلك فى كتابنا الحماية والعقاب وفى مقالات متعددة آخرها فى «المصرى اليوم» مطلع هذا العام). الكل يعتمد فى الغالب على الـpress release، الذى يتم تناقله عبر وكالات الأنباء، وفى هذا السياق يضيع ما يجب أن ننشغل به، كما نشهد كم أخطاء معلوماتية مذهلاً.
(4)
الخلاصة، إن ما يجب أن ننشغل به هو مواجهة اللغم، الذى وضعه القانون مبكرا من خلال تقارير المرحلة الثانية فى رؤية «مصر كمجموعات دينية وليس مصر الجماعة الوطنية» القادرة على استيعاب الاختلافات بين مواطنيها.
ولأن القضايا المثارة فى التقرير هى نتاج وقائع تحتل مساحة من نقاشنا الداخلى علينا أن نبقيها كذلك من خلال فتح حوار داخلى لمناقشة ما استجد فى مجال الحرية الدينية من إشكاليات: التحول الدينى، إشهار المذاهب المحلية والوافدة، بالإضافة إلى المشاكل المعروفة والمزمنة.. إلخ، شريطة أن يتم الحوار لا بمنطق عثمانى ملى أى دولة فى مواجهة مجموعات دينية ومذهبية، وإنما فى إطار سياسى وثقافى بمنطق الدولة الحديثة، التى تقوم على المواطنة.