من أكثر المفاهيم التى تتعرض للمراجعة وإعادة النظر، مفهوم «السياسات العامة»…ذلك لأنه يمس عند التطبيق المواطن العادى فيما يتعلق باحتياجاته ومطالبه الأساسية، والتى لا تستقيم المعيشة بدونها.
ومنذ أزمة الكساد الكبير التى تعرض لها الاقتصاد الأمريكى فى سنة 1929، أصبح لا يمكن الحديث عن السياسات العامة الحكومية دون مراعاة البعد الاجتماعى لها…وأصبح من البديهى والمتعارف عليه مع المراجعات المستمرة أن يقترن تعبير الاجتماعية بالسياسات، ذلك لأن السياسات الحكومية لا تناقش أو توضع أو تنفذ فى فراغ اجتماعي، لذا بات شرطا أن يتم تأمين البعد الاجتماعى فى هذه السياسات.
هذا هو الدرس المستفاد من خبرة الدول التى قطعت شوطا فى التقدم، أخذا فى الاعتبار أنه لا تزال المراجعات قائمة وقيد النقاشات خاصة مع تكرار الأزمات المالية العالمية والتى كان أخرها أزمة 2008. حيث فى كل مرة يتبين ضرورة تطوير السياسات الاجتماعية بما يضمن حماية الشرائح الوسطى والدنيا، ويكفى ان نستعيد النقاشات الحية والثرية للاتحاد الأوروبي، والندوات والكتب التى تناولت السياسات الاجتماعية. وبالطبع تزداد الحاجة فى واقعنا إلى مراعاة السياسات الاجتماعية مع تنامى التفاوتات الحادة بين الطبقات/ الشرائح الاجتماعية، وبين مركز الدولة وأطرافها، وبين المدن وأحزمتها..الخ. أو ما دأبنا على تأكيده فى مقالاتنا الأربعة السابقة حول دولة الحماية الاجتماعية للمواطن، ومقوماتها الست، والشبكة الوطنية الى تقوم على أربعة مرتكزات، كآلية لتضمن مد مظلة الحماية الاجتماعية لكل المواطنين.
تاريخيا بدأت ممارسة السياسات الحكومية بشكل وظيفي، باعتبارها أمرا يرتبط ـ أساسا ـ بالإدارة الاجتماعية للبلاد، والتى تعنى، بحكم التعريف، بالخدمات الاجتماعية وكيفية تأمين توصيلها للأفراد والأسر من خلال الماكينة الإدارية لأجهزة الدولة بقنواتها التقليدية أو التى يتم استحداثها وفق ما يستجد على أرض الواقع. بيد أن الواقع قد أثبت من خلال الممارسة العملية أن «الإدارة الاجتماعية» بحسب أحد الباحثين، لم تستطع أن تدمج المواطنين فى بنية الدولة الوطنية من جهة، كذلك تحقق «التمكين» المطلوب لدفع هؤلاء المواطنين أن يحسنوا أحوالهم. الأكثر أن التفاوتات بقيت على ما هى عليه، وأن الفرص ظلت غائبة عن كثيرين من المواطنين، تجاوز،ـ واختلال ميزان التكافؤ بينهم وبين القلة، وأصبح لزاما على المعنيين أن يعيدوا النظر فى مسألة «السياسات». فالأمر أكبر من تقييد السياسات فى إطار حزمة إجراءات إدارية أو ما عرف بالإدارة الاجتماعية. فالبشر الذين ينتظرون عائد هذه السياسات هم بشر يعيشون فى سياقات ويتعرضون لظروف اجتماعية ليست طيبة متنوعة، ويعانون من منظومة علاقات عمل ليست عادلة، وتتجاذبهم موازين قوة مجتمعية قديمة وحديثة، والأهم وبشكل مباشر يتأثرون ـ سلبا، من جراء نظام اقتصادى تنتج عنه آثار اقتصادية تكرس للتفاوتات والاختلالات المجتمعية (وهو ما يستحق أن نفصله لاحقا). والمحصلة، فشل السياسات التى يتم حصرها فى إطار إدارى نمطي، لأنها فى هذه الحالة تكون أقرب سياسات يتم قولبتها فى قالب أقرب إلى «البؤجة» الخيرية أو الإعانة التى تقدم للمواطنين، تجاوزا، لضمان بقائهم على قيد الحياة، وتعينهم على عوارها.
لذا تجدد النقاش حول البعد الاجتماعى للسياسات. واجتهد المجتهدون فى تعميق وتثمين دلالة كلمة «اجتماعي». فلقد وضح أنه لا يمكن أن توضع سياسات اجتماعية حقيقية ناجعة دون توافر دراسة شاملة للمجتمع بأبعاده المختلفة وتشابكات هذه الأبعاد. وأصبح لابد من توافر الجوانب الثلاثة الآتية وذلك كما يلي:
أولا: خريطة طبقية دقيقة لبنية المجتمع بما يضم من: طبقات وشرائح وفئات. وطبيعة التغيرات التى طرأت على هذه الخريطة على مدى زمنى محدد، وكذلك أنماط الحراك الاجتماعى والاقتصادى وأشكال التوترات والصراعات/النزاعات القاعدية المتنوعة، التى جرت لتعويض غياب السياسات الاجتماعية.
ثانيا: خريطة سكانية شاملة تعكس : التوزيع السكانى فى جغرافيا الوطن، وسمات التشكيلة السكانية العمرية والتعليمية والصحية، والمهنية، والجنسية..الخ، ورسم علاقات بين كل هذه العناصر معا.
ثالثا: خريطة تعكس أثر التحولات المجتمعية التى تعرض لها الوطن على مدى زمنى معين: السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية على المواطنين. حيث يتم رصد أثر كل من التصنيع، والتحضر، مثلا على المواطنين، أو الأثر الكلى للمجتمعات العشوائية على العلاقات والأحوال الاجتماعية. ومسارات النظام القيمى الثقافى وتأثيره على الواقع. وأثر الحراكات السياسية على المشاركة المجتمعية وفاعلية المواطنين وكذلك المؤسسات المدنية والسياسية، لما لهذا الأثر من أهمية سوف يتم تحديد أى ادوار يمكن أن تسند للمواطنين والمؤسسات فى تشكيل وتنفيذ السياسات الاجتماعية.
فى ضوء ما سبق، يمكن أن ننتقل من السياسات الإدارية الخدمية التى تتعاطى مع الناس من بعيد وتبقيهم حيث هم فى عزلة إلى السياسات الاجتماعية القادرة على تمكين المواطنين وتفعيل أدوارهم ودمجهم فى المهام الوطنية الملحة لدعم دولة الحماية الاجتماعية لكل المواطنين.. ونواصل..