السياسات الاجتماعية بين منهجين

السياسات الاجتماعية التى نسعى إلى تطبيقها فى ظل دولة الحماية الاجتماعية للمواطن، هى السياسات التى يتوافر فيها البعد الاجتماعي، كما أشرنا فى مقالنا السابق، فى إطار الذى يعيد دمج المواطن بعد تمكينه فى الجسم الاجتماعى للوطن. فلا يكون بعد، مهمشا، أو محروما، أو مهملا.

فى هذا السياق نشير إلى ضرورة التمييز بين منهجين فى التعاطى مع السياسات الاجتماعية. الأول منهج اقتصاد السوق. والثانى منهجالمساواة للجميع. يقوم المنهج الأول: منهج اقتصاد السوق على رؤية السياسات الاجتماعية من منظور نقدى ومالي، باعتبار نظم الرعاية التأمينية أحد مكونات الماكينة الاقتصادية، ذلك لأن الليبرالية الجديدة أعادت تشكيل السياسات الاجتماعية بما يخدم قوى السوق، ومن لا يستطيع ينتظر النشاطات الخيرية لتوفيرها له. وهو ما عرف ب نزع الطابع الاجتماعي. والتسليع التام للحياة الإنسانية.

الأمر الذى كانت نتائجه وخيمة على كثير من البلدان. ما أدى إلى خلل فى الوضع العام للمواطنية بدرجة أو أخرى، وبدا المشهد الختامى وكأن دولة الرفاهية قد أصابها نمو غير متوازن أدى بالأخير إلى رفاهية البعض على حساب البعض الآخر. فاللامساواةوالتفاوتات الحادة تفشت لتشمل العلاقة بين الأجيال، والفئات المهمشة، وبين المدينة والريف، وبين المواطنين الأصليين والمهاجرين الجدد ،وبين المهاجرين أنفسهم بحسب جذورهم الاثنية.. إلخ. فلقد دافع الليبراليون الجدد عن تفسيراتهم للنمو الاقتصادي، بشراسة، ومن أهمها: أن النمو الاقتصادى يقوم على الانتقاص من اعتمادات الرعاية الاجتماعية والتأمينية للمواطن، لأن ذلك يعد شرطا ضروريا للتنافسية فى ظل اقتصاد عولمي. وعليه بات اتساع الفجوات الحادة بين المواطنين هو ثمن وتكلفة التنافسية الاحتكارية.

ونتج عن ذلك أن كثيرين تمردوا على هذا النهج وبدأت مراجعة، ليس السياسات المنزوعة الطابع الاجتماعي فقط، وإنما التوجهات الاقتصادية ذاتها. من قبل اقتصاديين من داخل المعسكرالرأسمالي: أولا: مجموعة ممن عرفوا باقتصاديى نوبل والذين قدموا مجموعة من الاجتهادات المعتبرة فى نقد السياسات النيوليبرالية مثل :أمارتيا سِن (نوبل 1998)، وجوزيف استيجلتز(2001)، واخيرا بول كروجمان (2008)وثانيا: بعض رجال الأعمال مثل:جورج سوروس الذى ألف كتابابعنوان: أزمة الرأسمالية العالمية. وثالثا: بعض المدافعين عن النموذج الرأسمالى وانتصاره الحتمى مثل فوكوياما الذى ألف كتابا فى سنة 2004 بعنوان: بناء الدولة،حيث أكد فيه أهمية دور الدولة ووظائفها وضرورة تقويتها واعتبار ذلك إحدى المهمات الضخمة التى يجبالاضطلاع بها وخاصة فيما يتعلق بضمان سياسات اجتماعية أكثر عدلا. ورابعا وأخيرا بعض السياسيين الذين عملوا فى الإدارة الأمريكية مثل روبرت رايش الذى عمل وزيرا للعمل فى إدارة كلينتون وألف كتابا مهما فى سنة (2007) بعنوان: السوبر رأسمالية. كان من شأن هذه المراجعات أن بدا الحديث عن المنهج الثاني.

ينطلق منهج المساواة للجميع، من نظرة ترى منظومة الرعاية الاجتماعية بمكوناتها، باعتبارها حقا من حقوق للمواطنين. ومن الضرورى مواجهة التداعيات التى نجمت من الأخذ بالمنهج الأول. واجتهد المجتهدون ـ ونشير هنا إلى محاولة أنتونى جيدنز المبكرةالذى أسس لكثير من المراجعات، حيث خلصت إلى ضرورة إعادة هيكلة دولة الرفاهية بما يضمن توفر المساواة، بالرغم من الأزمة المالية العالمية واثرها على الدول الغنية من جهة، والأزمات الاقتصادية التى تعانى منها بالفعل الدول الفقيرة من جهة أخرى. كما أطلقت دعوة لفتح حوار مجتمعى بين كل الأطراف لابتكار سياسات اجتماعية متحللة من القيود الرأسمالية التقليدية التى تعوقدون بلوغ الحقوق الاجتماعية تحديدا. وضرورة الأخذ بسياسات اجتماعية تعلى من شأن التماسك الاجتماعى المعنوى والمادى فى سياق يقرأ البنية الاجتماعية، وتكوين شبكات للتعاون والتحالف المشترك بين المواطنين، والدفاع عن حقوقهم، وتطوير البنى المجتمعية: اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية بما يسمحباستيعاب واندماج كل المواطنين من دون استبعاد أو تهميش لأىسبب، ما يعنى ضرورة إعمال مراجعة حقيقية من جانب الليبراليينالجدد الذين ما زالوا يدافعون عن رؤى ثبت فشلها فى دول المركز المتقدم، فما بالنا فى واقع اقتصادى حرج . لذا فدولة الحماية الاجتماعية للمواطن ـ الفكرة التى تناولناها من زوايا عدة على مدى خمسة مقالات، والتى من شأنها ضمان حياة كريمة لكل المواطنين فى ظل ظروف صعبة، ضرورة. ومن ثم وضع كل الضمانات التى تحقق ذلك وتحمى المواطن، أى مواطن من أن يُحرم، أو يُهمش، أو يُستبعد، أو يُعانى لأى سبب من الأسباب، من خلال ما أطلقنا عليه الشبكة الوطنية للحماية الاجتماعية بعناصرها المتكاملة، ما يضمن سياسات اجتماعية تحقق انتصارات حاسمة فى مواجهة الاختلالات الاجتماعية وتؤمن المساواة والعدالة بحق.. ونواصل.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern