فى هذا الشهر تحل الذكرى الستين لثورة يوليو 1952. تأتى هذه المناسبة مع وصول أول رئيس مدنى إلى سدة الحكم عقب انطلاق الحراك الثورى فى 25 يناير 2011. وشئنا أم لا فإن الضرورة البحثية والمعرفية والسياسية تفرض علينا أن نطرح العديد من الأسئلة من عينة: هل لم تزل شرعية يوليو هى الحاكمة؟ وهل الانتقال من حاكم عسكرى إلى آخر مدنى أو بين جمهوريتين يعنى اختلاف الشرعية أم تجديدها؟ وهل الحراك الثورى الذى شهدناه فى 25 يناير 2011 هو امتداد لشرعية يوليو؟ وماذا عن المستقبل؟ ولأهمية هذا الموضوع نكتب عنه فى ثلاث حلقات على مدى شهر يوليو بالترتيب التالى:
الحلقة الأولى «يوليو: الثورة»، والثانية «يوليو: الدولة والدولة المضادة» أما الثالثة فنتناول «يوليو: الجمهورية الثانية ومستقبل مصر»..
نشير فقط إلى أننا ومنذ انطلاق الحركية الثورية فى 25 يناير تناولنا علاقة ثورة يوليو ودولتها بما يجرى من حركية ثورية فى ثلاث مقالات هى: ما بين يوليو 52 و25 يناير من تشابه واختلاف، كذلك دولة يوليو وثورة يناير. وأخيرا مقالنا حصاد كونجى.. وسوف نبدأ سلسلتنا عن ستينية ثورة يوليو وضرورة قيامها بحديث عن يوليو «الثورة»..
ثورة يوليو 1952: استجابة راديكالية لواقع مأزوم
استطاع حزب الوفد فى ثورة 1919 أن يقترب من بلورة المواطنة عمليا بعد جهد طويل بذله المصريون على مدى سنوات طويلة سابقة، فكانت لحظة الثورة تعبيرا عن أن المصريين وللمرة الأولى فى التاريخ قد أصبحوا طرفا بدرجة أو أخرى فى الشأن العام للبلاد. المصريون هنا الأغنياء والفقراء، الرجال والسيدات، الحضريون والريفيون، المسلمون والأقباط. أى أن ثورة 1919 كللت جهد كل المصريين فى حركتهم نحو تحقيق المواطنة، فهم ليسوا ضيوفا فى وطنهم بل مشاركون بدون تمييز، يسعون نحو نيل حقوقهم. وكان دستور 1923 معبرا عن هذه الحركة وهذا الجهد، حيث تضمنت نصوصه هذه المفاهيم والأفكار التى أُختبرت قبلا وعمليا على أرض الواقع.
بيد أن الأعوام التالية من 1924 وحتى 1952 قد شهدت صعوبة بالغة فى تطوير ما تم إنجازه خلال ثورة 1919، وتقول الأرقام إنه خلال هذه الفترة تولى حكم مصر 38 وزارة، ولم يكمل برلمان دورته البرلمانية سوى برلمان واحد، هذا بالإضافة إلى دخول الوفد ــ حزب الأمة ــ لعبة التحالفات السياسية والمهادنة مع القصر والإنجليز، كذلك كثرة الانشقاقات الحزبية ووقوع الأحزاب جميعها وعلى رأسها الوفد فى قبضة ذوى الأملاك الكبيرة.
وفى نفس الوقت بدأ صعود فئات شبابية من أبناء الطبقة الوسطى تسعى إلى أن يكون لها مكان فى الحياة السياسية، فلم تجد فى الأحزاب القائمة موقعا لها، وهو أمر منطقى فلا الانتماء الاجتماعى ولا المكانة أو السن يؤهل هؤلاء الشباب فى احتلال أى موقع فى الكيانات السياسية الموجودة. لذا تبلورت ما يمكن تسميته بالقوى السياسية غير البرلمانية والتى انتظمت فى اتجاهات وتيارات عقائدية ودينية (شيوعية وإسلامية ومصر الفتاة). هذا ما اتجه إليه شباب الطبقة الوسطى فى الأربعينيات والذين كانوا خارج النخبة السياسية التقليدية. وقد ساهم أداء حزب الوفد السياسى فى انصراف الشباب عنه، حيث يشير طارق البشرى إلى كيف أن الوفد قد جعل من الديمقراطية خادمة للاستقلال الوطنى، بل وتم حصر الديمقراطية فى هذا السياق، وهو ما ترتب عليه ما يلى:
ــ الأمر الذى جعل أى معارضة فى داخل الإطار الديمقراطى تعنى ضربا للوطنية.
ــ كذلك فإن الديمقراطية إنما تعنى وجود الوفد فى السلطة، وحده دون غيره.
يضاف إلى ما سبق عوامل أخرى فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية حيث:
ــ كانت الهيمنة على المقدرات الاقتصادية فى مصر لكبار ملاك الأرض المصريين وللمصالح الأجنبية المسيطرة على مؤسسات المال والتجارة من بنوك وشركات،
ــ كما كان المجتمع الريفى ينقسم بحدة إلى 0.5% من الملاك يمثلون أكثر من ثلث الأراضى الزراعية، وفى مواجهتهم أحد عشر مليونا من الفلاحين المعدمين.
مما سبق نجد أن قيام الثورة كان حاجة موضوعية وضرورية.
يوليو «الثورة» والتغيير الاقتصادى ــ الاجتماعى
فى غضون ثلاثة أيام من قيامها أخرجت الملك، وخلال شهور تمكنت من إخراج الإنجليز وتحقيق الاستقلال الوطنى من دون الديمقراطية.
إذن، الحياة الديمقراطية التى وضعت الاستقلال الوطنى هدفا رئيسيا على مدى ثلاثين عاما قبل 1952 لم تستطع إتمام هذا الاستقلال بينما القوة الثورية استطاعت ذلك من دون الديمقراطية، بل أكثر من ذلك فلقد قامت بتلبية الحاجات الاجتماعية والاقتصادية لجماهير الشعب المصرى من خلال مجموعة من الإجراءات الاقتصادية وجدت ترحيبا من الفئات المحرومة، وهكذا فإن المواطنة التى تبلورت مع ثورة 1919 وبخاصة فى بعديها المدنى ــ السياسى، استكملت ببعديها الاقتصادى والاجتماعى مع ثورة 1952.
وظهرت قدرة الثوار أن ينجزوا ما عجز عنه حزب الوفد لعقود، خاصة فى مجالى المسألة الاجتماعية (الإصلاح الزراعى والتأميم)، والمسألة الوطنية (الاستقلال)، ما أدى إلى إحداث تغيير جذرى فى البنية الاقتصادية الاجتماعية المصرية، تغيير طال أوضاعا:
ــ مؤسسية كانت مستقرة لسنوات وخاصة فى «علاقات الإنتاج بسبب الإصلاح الزراعى (1952)، وتأميم قناة السويس (1956)، والمشاريع الأنجلو فرنسية (1957)».
ــ وطبقية عميقة.
وقد أجمل الميثاق الوطنى فى الباب السادس المعنون «فى حتمية الحل الاشتراكى»، المرحلة الثورية فى ذروتها، ويذكر فى ذلك:
«…إن الحرية الاجتماعية لا يمكن أن تتحقق إلا بفرصة متكافئة أمام كل مواطن فى نصيب عادل من الثروة الوطنية.. إن ذلك لا يقتصر على مجرد إعادة توزيع الثروة الوطنية بين المواطنين، وإنما هو يتطلب أولا وقبل كل شىء توسيع قاعدة هذه الثروة الوطنية بحيث تستطيع الوفاء بالحقوق المشروعة لجماهير الشعب العاملة.. بالكفاية والعدل نسير فى طريق الحرية الاجتماعية».
يوليو 1952: ثورة حقيقية على القديم
لم يكن ما سبق ليتم بدون المواجهة الثورية لمشكلة التخلف الاقتصادى والاجتماعى فى مصر، و«بقوة الدفع الثورى».. وفى كتابه المركب «المجتمع المصرى والجيش»، يشرح أنور عبدالملك بدقة بالغة كيف كانت طبيعة الصراع الداخلى القائم بين رأسمالية قديمة لا تريد أن تشارك فى التنمية والخوف من تزايد الفجوة فى الثروة والدخل بين طرفى المجتمع ما يعنى انقسام المجتمع إلى طبقتين متميزتين: كطبقة أقلية تملك مدخول الإنتاج، وأخرى يزداد عددها باستمرار لن تتمتع إلا بقسط ضئيل من مدخول الإنتاج.
من هنا قامت الثورة بعملية «تفكيك للبرجوازية القديمة»، بحسب أنور عبدالملك، خاصة مع إحجام هذه البورجوازية القديمة عن التعاون مع النظام الجديد، وبقيت بمفكريها الاقتصاديين وبإطاراتها الإدارية الكبيرة والمتوسطة، وبرأسمالها الهائل… و… قوة مستقلة غير منخرطة فى البنية الاقتصادية الجديدة.
فى هذا السياق، يقول عادل حسين إن ما حدث من تغييرات جذرية هى «صورة تشبه فى مداها ما تحقق فى مرحلة التحول الاشتراكى فى التجارب الاشتراكية الثورية…». لقد أصبحت الثورة الوطنية بقيادة جمال عبدالناصر من 23 يوليو 1952 أساسا للتحولات الراديكالية الممتدة إلى عمق البنى الاجتماعية من خلال إحداث تغييرات جذرية اقتصادية ومالية مركبة رافقها تغييرات تشريعية وقانونية ومؤسسية تتناسب مع التحول الاقتصادى. (يراجع أيضا على الجريتلى وحسين خلاف).
الخلاصة لم تكن «يوليو الثورة»؛ مجرد إنجاز ثورى «هائل داخل الحدود المصرية، فجوهر المرحلة الناصرية (الراديكالية)، إنها خرجت بالنضال المصرى ضد السيطرة الأجنبية إلى خارج الحدود، وأثر هذا الدور فى تغيير أوضاع المنطقة العربية تأثيرا بالغا». وكانت العروبة الرافعة للإنجاز الاقتصادى المحلى المصرى وعليه كان لهذه الثورة أن تنتظم مؤسسيا، لاستيعاب «يوليو الثورة» ذلك من خلال يوليو الدولة والتى عرفت مرحلتين دولة يوليو ودولة يوليو المضادة، وهو ما نتحدث عنه فى المقال المقبل.