كثر الكلام فى الآونة الأخيرة عن الصراع بين الإخوان والعسكر، وأن هذا الصراع سوف يقود البلاد إلى استنساخ ما جرى فى 1954..وباتت الأقلام والحوارات المرئية تستعيد ما جرى مطلع الخمسينيات وتُذكر به وتوحى بأن المعطيات تقود إلى نفس النتائج. بداية، لا بأس أن نستعيد التاريخ لنفهم ونتعلم ونتعظ من دروسه. ولكن من غير المنطقى علميا ومعرفيا ومنهجيا القبول بأن التاريخ يعيد نفسه وكأن السياق هو ذاته السياق وكأن أبطاله هم أنفسهم.
وبالفعل كان لنا مقال فى نفس هذا المكان عنوانه «ما بين 25 يناير ويوليو 52»، نشر بتاريخ 11 أبريل الماضى أى منذ عام بالتمام والكمال). حاولنا فهم ما هو الفرق بين التاريخين من جهة لأننى تصورت أن هذا سوف يحكم رؤيتنا لما يدور فى الواقع من جدل مجتمعى أوصلنا إلى ما أطلقت عليه التنازع بين شرعيات: «الميدان والبرلمان والعنفوان. ويبدو لى أنه بعد المعارك الأخيرة التى تقدمت المشهد السياسى أن دولة يوليو بتجلياتها المتعاقبة قد باتت تواجه لحظة صراعية مع ثورة يناير. ومن ثم فإن الاستعارة التاريخية لا ينبغى أن تحدد فهمنا للمشهد الحالى.. لماذا وما هى التجليات المتعاقبة لثورة يوليو والتى تؤكد أن التاريخ ليس ساكنا وما هى الطبيعة الصراعية تحديدا أو بالأحرى المأزق الذى نحن فيه؟
يوليو 52 ويناير 25: أوجه التشابه والاختلاف
إن التاريخين غير متطابقين من حيث الفاعلية والمضمون، هناك أوجه تشابه قطعا ولكنها لا تعنى التطابق. أوجه التشابه يمكن رصدها فيما يلى: اشتداد المسألة الاجتماعية (سيطرة الأجانب على مقدرات الاقتصاد وانقسام المجتمع الريفى بحدة إلى 0.5% من الملاك يمثلون أكثر من ثلث الأراضى الزراعية، وفى مواجهتهم أحد عشر مليونا من الفلاحين المعدمين، وازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكل غير مسبوق، تنامى المسألة الشبابية، وجود أيديولوجية دينية تعبئ الناس، ووجود قوى سياسية فاعلة ومتنوعة، وأخيرا حضور الجيش كمؤسسة وطنية ترمز لانصهار المصريين.
أما الاختلاف يكمن فى أن طبيعة الطليعة العسكرية ــ إن جاز التعبير ــ وعلى قمتها الكاريزما التى قادت البلاد بعدها قد فوضت نفسها فى إدارة أمور البلاد وأن تنجز التغيير بنفسها. فلقد استطاعت يوليو 52 فى غضون ثلاثة أيام من قيامها إخراج الملك، وخلال شهور تمكنت من إخراج الإنجليز وتحقيق الاستقلال الوطنى. وخلال شهور أن تعلن قانون الإصلاح الزراعى تلبية لاحتياجات اجتماعية ملحة ومعالجة للمسألة الاجتماعية الآخذة فى الاحتداد وقتذاك.
ولأن ما حدث فى 1967 مثل لحظة فارقة فى تاريخ مصر، فلقد كان القرار التاريخى بحسب كثير من المؤرخين وتحديدا العسكريين منهم بأن يعود الجيش إلى الوضعية المؤسسية الاحترافية دون أن يكون طرفا فى اللعبة السياسية وأن ينحاز إلى الوطن والدولة وللمصريين. ومن هنا صارت الخيارات الكبيرة تتوقف على القيادة السياسية وتقديراتها. وعليه اكتفى المجلس العسكرى بأمرين هما: إدارة مرحلة ما بعد 25 يناير، والتدخل الحاسم باستخدام القوة حسب تقديره لمواجهة ما قد يهدد الدولة. لذا فإن الحديث عن استعادة التاريخ عن أزمة ما بين العسكر والإخوان لا يمكن أن تكون مثلما تطرح. فالعسكر بالمعنى الذى ذكرناه ليسوا هم عسكر اليوم، والإخوان فى واقع الحال هم أحد شركاء دولة يوليو فى تجلياتها اللاحقة.
تجليات أربعة لدولة يوليو
يمكن القول إن دولة يوليو قد مرت بأربعة تجليات على مدى ستة عقود. أولها كان التجلى الكاريزمى الذى اتبع نموذج رأسمالية الدولة واستطاع هذا النموذج أن يجرى تغييرات فى البنية الاجتماعية والاقتصادية طالت أوضاعا:
مؤسسية كانت مستقرة لسنوات وخاصة فى «علاقات الإنتاج بسبب الإصلاح الزراعى (1952)، وتأميم قناة السويس (1956)، والمشاريع الأنجلو فرنسية (1957) وتأميم المشاريع المصرية الكبيرة (1961 ــ 1964)».
وطبقية عميقة.
واقع الحال كانت هذه التغييرات أقرب إلى عملية «تفكيك للبرجوازية القديمة»، بحسب أنور عبدالملك، خاصة مع إحجام هذه البورجوازية القديمة عن التعاون مع النظام الجديد.
أما التجلى الثانى حدث مطلع السبعينيات حيث تحولت مصر إلى نظام أوليجاركى يعبر فى مضمونه عن رأسمالية دولة تابعة، حيث تم إعادة الطابع التقليدى والرأسمالى للمجتمع فى أكثر صوره تشوها، والتضييق على انفتاحية الدولة فى مجالات التعليم والثقافة. وانتشرت قطاعات التوكيلات والمقاولات. كما ساهمت مقولات من عينة: أنا كبير العائلة، وأخلاق القرية، إلى الارتداد إلى ما قبل الدولة الحديثة. وقد شهدت هذه المرحلة مصالحة تاريخية مع التيار الدينى وخاصة الإخوان المسلمين قد تكون مشروطة ولكنها حدثت برضا الطرفين الدولة والإخوان.
أما التجلى الثالث هو ما شاهدناه فى التسعينيات من بيع للقطاع العام وإطلاق اقتصاد السوق تحت مظلة ما يعرف بالليبرالية الجديدة التى أدت إلى اقتصاد احتكارى مع حضور للإخوان المسلمين نسبى. حيث شاركوا محمولين من أحزاب أخرى (الوفد 1984 والعمل 1987 و1990) أو منفردين فى كل الانتخابات البرلمانية التالية. حلت نخب رجال الأعمال محل النخب البيروقراطية التى سادت الفترة 1956 1990 باعتبارها مصدر دعم حيوى ومهما للنظام الحاكم. فضلا عن استيلائها على مكان النخب السياسية التقليدية والقوات المسلحة..». وأنه وللمرة الأولى منذ عام 1952 «تتخلى الحكومة عن كل دعاوى الشعبوية ويصير توزيع القوة مائلا بشدة نحو نخبة صغيرة جدا».
ونأتى إلى التجلى الرابع الذى أنتجته انتخابات 2011 ولا أقول 25 يناير. ألا وهو التجلى الدينى خاصة أن التجلى الدينى كان حاضرا بدرجة أو أخرى فى الاقتصاد والسياسية نعم مع الملاحقة الأمنية ولك المحسوبة وفق الاتفاق التاريخى فى الفترة السادتية. بالتجلى الدينى تكتمل دولة يوليو يتجلياتها الأربعة: الكاريزمية التى قادت رأسمالية الدولة، والأوليجاركية التابعة، والليبرالية الجديدة التابعة وأخيرا الدينية.
إذن الموضوع أكثر تعقيدا من استحضار الصراع التاريخى بقدر فهم طبيعة اللحظة الصراعية.
25 يناير ثورة على تجليات دولة يوليو المتعاقبة
فى ظنى أن 25 يناير هى ثورة على كل الجوانب السلبية لتجليات دولة يوليو. ثورة على غياب الحرية السياسية والمدنية فى الفترة الكاريزمية، وعلى التخلف الاجتماعى والسياسى والظلم والثقافة الدينية التى تؤسس للخرافة وتبرر الافقار وتدافع عن مصالح القلة فى المرحلتين التاليتين وضد البيروقراطية الفاسدة والقوى الاقتصادية التابعة. كذلك ضد التجلى الدينى الذى جاء عبر شرعية البرلمان والذى وضح أنه يريد أن ينفرد بالدولة، خاصة أن أعضاء البرلمان يعتبرون أنفسهم يعبرون عن الثورة لأنهم حازوا الأغلبية، بينما هم تيار من تيارات الثورة التى شهدها الميدان. فمن أطلقوا الحراك ومازالوا يؤمنون بالفعل الثورى كطريق وحيد لتحقيق حلم التغيير لم يُمثلوا فى البرلمان. ومن خاضوا العملية الانتخابية يؤمنون أن الشرعية قد آلت إليهم ولكنهم دون أن ينتبهوا ربما:
يريدون وصل ما انقطع بالقديم الذين كانوا جزءا من صياغته الأولى مطاردين وملاحقين أو مشاركين فى حدود أو حاضرين بترقب على الرغم من أن الثورة هى انقطاع عما قبل.
وتؤكد القراءة السريعة لموقف كل فريق من الفرق المتنازعة من الأحداث طبيعة انحيازه السياسى والاجتماعى ورؤيته للعلاج وكلاهما يعبران بدقة عن المسافة التى تفصله عن الآخرين. ولكن الأكيد فى ظل ما سبق هو أن الفعل الثورى الذى انطلق ــ شئنا أو لم نشأ ــ قد انطلق وبات يساوى بين غضبة الشباب فى الميادين وغضبة المواطن المصرى عندما لا يجد قوت يومه. وهنا مربط الفرس أننا يجب الانتباه للاحتجاجات اليومية التى يعبر عنها المواطنون المصريون فى كل موقع ومكان والتى تعنى أن موجات أخرى قادمة لا محالة.