موجتان ثوريتان عرفتهما مصر على مدى 30 شهرا.. الأولى وصفناها بالحراك الشبابى الشعبى الثورى الذى انطلق فى 25 يناير 2011.. والثانية كانت «تمرد» التى انطلقت فى 30 يونيو2013.. الأولى كانت فى مواجهة الاستبداد السياسى ومحاولة فتح مساحة للتشارك السياسى للطبقة الوسطى الصاعدة.. أما الثانية فقد كانت فى مواجهة «الاستفراد الدينى» الذى استأثرت به جماعة وواجهت به عموم المواطنين.. وفى هاتين الموجتين كان الاستعباد الاقتصادى والاجتماعى حاضرا.. فلقد نجح المصريون ـ بدرجة أو أخرى ـ
أن يعلنوا رفضهم للاستبداد والاستفراد أو للشموليتين السياسية والدينية.. إلا أنهم لم يزالوا بعيدين عن إعادة صياغة البنى الاقتصادية والاجتماعية بما يحقق الثورة المكتملة من محصلة الموجات الاحتجاجية والحراكية والمتمردة… إلخ.. ولأن 30 يونيو كان لحظة فارقة ـ ولم تزل تبعاته فاعلة ـ فى تاريخ مصر، فإن لحظة تأمل مطلوبة بعد فعل تمرد الميدانى.
بداية لابد من إدراك أن ما جرى فى مصر لم يكن حراكا نمطيا على شاكلة الثورة الفرنسية أو ما تلاها من ارتدادات ثم ثورات أخرى. إنه «حراك مركب»؛ تداخلت فيه عناصر عدة منها: الجيلى، والطبقى، والمكانى، والجهوى، والدينى، والمذهبى، والجنسى. حراك تم على مراحل واتخذ أشكالا مبدعة من الاحتجاج، فى ظل لحظة معرفية وتقنية يسرت للطليعة الرقمية الشبابية أن تؤمّن تغييرا غير مسبوق وفريداً.
حراك فى مواجهة عقود من الاستبداد السياسى والدينى والثقافى أوصل مصر إلى ما هى عليه. إنهم «المستضعفون» الذين نزلوا إلى الشارع يعبرون بإبداع وبسلمية ووطنية عن رفضهم أن يعاملوا كرعايا أو كأفراد «قصر» يحتاجون لمن يقودهم.. ويعلنون تمسكهم بمشروع الوطنية المصرية والذى قاعدته الوطن المصرى متعدد الألوان، ولدولته الحديثة بمؤسساتها.. وهذا الحضور المليونى الميدانى لم يكن إلا تجسيداً عمليا لما أشار إليه الكثير ممن سبقونا فى كيف يمكن لقوة المستضعفين أن تقاوم وتسقط أى سلطة غاشمة سياسية أو دينية.
ففى كتاب فاتسلاف هافل (1936 ـ 2011) «قوة المستضعفين» يشير إلى الشمولية الجديدة ـ إن جاز التعبير ومنذ الثمانينيات ـ حيث حكامها يخضعون المحكومين عن طريق «القمع الانتخابى». أى توظيف الديمقراطية لإحكام السيطرة على الأحزاب والتيارات بما لا يخل بمصالح القلة الحاكمة: سياسية/دينية واقتصادية.
المفارقة أن الاستمرار فى الحكم يكون باسم الجماهير وتحت مظلة أفكار (أيديولوجية) يتم تسويقها وترويجها: ثقافية أو دينية، شريطة أنها تكون قادرة على إقناع المستضعفين/ المواطنين، بأنه ليس هناك أفضل من القائم. وعن هذا يقول هافل: «تعمل السلطة الشمولية على ملاحقة المستضعفين بالطبع مرتدية قفازات الأيديولوجية. فالحياة فيها متشابكة كنسيج طحلبانى من الكذب والادعاء. إن حكومة البيروقراطية تسمى حكومة الشعب، وباسم الطبقة العاملة يتم استعباد الطبقة العاملة، الإذلال المستشرى للإنسان يفُسر على أنه تحرير كامل للإنسان، ويطلق على حجب المعلومات تداول المعلومات».
هكذا تحصل السلطة الشمولية على شرعية لا تستحقها. ولكنها تأخذها بفعل ماكينة مجتمعية تسوغ الأكاذيب التى يصدقها الناس. أكاذيب تبدو كحقائق قادرة على أن تمنح السعادة للناس. ويظل المستضعفون فى انتظارها ولكنها لا تأتى قط.. لم تختلف سلطة الاستبداد السياسى عن سلطة الاستفراد الدينى عن ذلك، وظل الاستعباد الاقتصادى قائماً دون تغيير.
وهذا ما دفع المصريين للمقاومة فى الميادين.. ونتابع.