الدولة والطبقة الوسطى.. نحو صياغة جديدة

تأسست الدولة الحديثة في مصر على يد محمد على في عام 1805. قامت هذه الدولة على ثلاثة أركان أساسية هي: أولا: تكوين جيش وطني، وثانيا: بناء جهاز إداري على النمط الحديث لإدارة شئون الدولة، وثالثا: التوسع في تكوين مؤسسات حداثية في شتى المجالات مثل: المدارس العليا، والأجهزة القضائية، والتخطيطية، والعمرانية، والأدبية، والفنية، الجمعيات الأهلية.. إلخ.

كان المصريون ممن منحوا ملكية الأراضي هم المكون الأساسي لأركان الدولة الحديثة، ما سمح لهم بأن يشكلوا في المجمل ثلاثية:الضابط، والموظف، والتكنوقراط(الخبراء/ المهنيون)، والذيناعتبروا في الواقع النواة الأساسية للطبقة الوسطى الجديدة الصاعدة.

وفي هذا المقام، نشير إلى ما ذكره سعد الدين إبراهيم، بأن هناك طبقة وسطى قديمة تتكون من: التجار والمشايخ من ذوي الثقافة التقليدية والذين ارتضوا بأدوار ذات طبيعة اجتماعية لا تقترب من السياسة إلا عند الضرورة ، وفي إطار الوساطة بين «الرعية»و«الحاكم الوافد. وهو فرق جوهرى بين الطبقة الوسطى القديمة والطبقة الوسطى الجديدة، لماذا؟ لأن هناك فرقا بين لعب دور الوسيط بين جموع الناس أو العوام وبين أن تكون لاعبا أساسيا في العملية السياسية الجديدة في قلب الدولة الحديثة، ومحركا لها عسكريا وإداريا وتقنيا، إنها الطبقة الوسطى الحديثة تشكلت نتيجة التعليم الحديث بعلومه الجديدة فنتج الخبراء والضباط والموظفون.

ظلت الطبقة الوسطى الجديدة التي ولدت من رحم دولة محمدعلي، هي الفاعل الرئيسي في العملية التحديثية المجتمعية بأبعادها: التعليم، تعبئة المجتمع من خلال مؤسسات المجتمع المدني، تأسيس مدارس قومية في الفن والموسيقى والعلم وفي شتى المعارف، والدفاع عن الوطن والنضال من أجل تحقيق الاستقلال، والنضال السياسي من أجل وضع دستور للبلاد ووضع بذرة العمل السياسي، وتجديد الفكر والخطاب الديني وفق المركب الثقافي المصري.. إلخ. وإجمالا قامت بعمل هذا التضفير»البديع بين التحديث والحداثة».. إلخ.

مع مطلع القرن العشرين وجدنا هذه الطبقة يزيد عددها وتنتشر في المدن الكبرى. وجاءت 1919 حتى انتفضت هذه الطبقة وكانت قاعدة انطلاق الثورة المصرية. ولكن مع هزيمة الوفد التاريخية في الأربعينيات وجدت الطبقة الوسطى نفسها خارج السلطة التي احتكرها كبار ملاك الأرض. وكان البديل لهذه الطبقة المحورية إما أن تنخرط في جماعات سياسية، رسميا، تعد غير شرعية شعبوية الطابع أو مشاركة الشرائح العمالية نضالاتهم، أو العودة إلى التكوينات الأولية التقليدية .

ومع ثورة 1952 تحقق للطبقة الوسطى «احتلال مقدمة المسرح في المجتمع المصري» بحسب يونان لبيب رزق. حيث كانت ثورة يوليو ودولتها الناصرية تتسم بأنها تعبير عن تحالف الطبقة الوسطى، وكانت قراراتها في صالح هذه الطبقة، وتعمل على تلبية تطلعاتها، فكانت قادرة على شراء السيارة الخاصة وشقة«المصيف» بسلاسة ويسر، بحسب وصف جلال أمين في كتابه الأشهر ماذا حدث للمصريين؟ لقد كانت قرارات النظام بعناصره الحاكمة تراعي مصالح الطبقة الوسطى وتطلعاتها كما وفرت لها.

لكن مع دولة يوليو المضادة التي تكونت مطلع السبعينيات، تشكل التحالف السلطوي الحاكم من المقاولين، والسماسرة ووكلاء الشركات العالمية وملاك الأراضي القديمة تحت مظلة قانونالانفتاح أو القانون 43 لسنة 1974 ومن بعده جاءت سياساتالليبرالية الجديدة في الثمانينيات وما بعدها: من خصخصة وتبني اقتصادالسوق، مسببة أضرارا كبيرة للطبقة الوسطى بشرائحها، ما جعلها تودع (بحسب تعبير رمزي زكي وداعا للطبقة الوسطى)المشهد السياسي المصري.

وعليه، أقصيت الطبقة الوسطى من موقع الصدارة في الدولة الحديثة، ما دفع بعضها للارتحال إلى دول النفط وبعضها الآخر للهجرة إلى دول المهجر، وبعضها الثالث للعودة إلى الاحتماء وطلب الرعاية من الجماعات الأولية. فلم تعد الطبقة الوسطة قادرة على شراء السيارة الخاصة أو تعليم أولادها وبناتها أو الذهاب إلى المصيفكما كان الحال وقت صعود الطبقة الوسطى في الفترة من1919 إلى 1969. وهنا حدث «الخلل الكبير»، الذي لم ينتبه إليه أحد،حيث تم فك الارتباط التاريخي بين الدولة والطبقة الوسطى، وتم تفكيك «الصيغة التاريخية» التي جمعت بينهما. حتى من بقي على قوة الدولة المصرية مثل الجهاز الاداري تتردى وضع عناصره إلى حد كبير.

لذا كانت 25 يناير التي أعتبرها حراكا صريحا من قبل الطبقة الوسطى للمشاركة في الثروة من جهة والمشاركة في السلطة من جهة أخرى مع ما أطلق عليه «شبكة الامتيازات المغلقة» وهو تعبير أظنه أدق من تعبير رأسمالية المحاسيب، أو بلغة أخرى محاولة«لتجديد الصيغة التاريخية» بين الدولة والطبقة والوسطى. لماذا ؟ وكيف؟ وما ضرورة ذلك من أجل سلامة الوطن؟ هذا ما نجيب عنه. ونتابع..

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern